واقع الخيانة

ثقافة 2020/09/29
...

محمد عطوان
منذ اللحظة التي صعد فيها الإسلامُ السياسي إلى السلطة في العراق، وحاولَ فرض خطابه على الجميع، وجعل الامتيازات ولوازم النفوذ تجري لمصلحة جهةٍ مخصوصة بعينها لقاء إقصاء جهاتٍ غيرها، منذ تلك اللحظة والكثيرُ من المثقفين ـ ممن راقَ لهم الانتظام في حركة الثقافة والنقد، على اختلاف مشاربهم ومرجعياتهم؛ كانوا في الواقع يتحيّنون الفرصَ السانحة للحلول محل قادة الاسلام السياسي، أو كانوا يتوسمون مشاركتهم السلطة في الأقل.
لستُ هنا بصدد تقييم أطروحة الإسلام السياسي عن الدولة وطريقة إدارتها، أو عن السلطة وكيفية إدراك العقل الديني لمضامينها، إنما بصدد تعيين الدوافع التي تربض وراء ما يخفيه المثقف العراقي من قصديات، ومن رغبات دفينة في الاستحواذ على السلطة، والتنعّم بكل ما تجود به من خصائص ومميّزات سياسية، وحتى فضائل طبقية يتسنى له ممارستها على الغالبية من الناس “الدنيويين” بتعبير جوليان بندا.
ومن واقع الخيانة Treason التي أعلنها بندا على المُثقفين نستطيع أن نُكوِّن تصوِّراً وصفياً عن طبيعة المثقف العراقي وهو ينخرطُ في شواغل السياسة لينزلقَ في مهاويها في آخر المطاف، وليصيرَ جزءاً من نسيجها، مُكوِّناً لها، ومُجنِّداً مشاعره السياسية للذود عنها، ونافخاً فيها روحَ ما كان ينبغي أن يوضعَ موضع النقد منها. فعوضاً عن كشف الحقيقة المضمرة المُكوِّنة للسلطة أو المُكوِّنة لمظاهرها في القومية والعِرق والطائفة والمذهب، يُداري هذا المثقفُ - بما يملكُ - السرَ في تفاهتها، فيُوزع فيها طاقةً مديدةً من التبرير والشرعية والبقاء والنماء.. يُداريها منذ اللحظة التي التزم فيها خيارَ الصمتِ، وشارك فيها أفرادها الحكم، إلى ما سينتهي إليه بمداراتهِ لأطروحاتِها الأيدولوجية لمَّا يَصيرُ نفسه عنصراً تكاملياً فيها، متذرراً بتربتها، متعاطفاً مع خطابها. ليتراكم تحت هذا الكم الزائف من التعاطفات مزيدٌ من التضليل والخراب والظلم في أجود الأحوال وأنسبها. فيصبحُ التواضعُ بإطلاقٍ على قبول ما هو خطأ صواباً، وعلى عد ما هو هلاك ومحو وإبادة في المنازلات والوقائع الكبرى مبتغى ومنى لمبادئه الذاتية.
لذلك يباغتُنا هذا المثقف بدفاعه عن مظلومية الطائفة التي ينتمي إليها والتي يصادفُ أن تتبناها السلطةُ، أو فصيلٌ نافذ داخل السلطة؛ فيدافعُ عنها من منطلق حقوقي عام، أي يدافعُ عن حق المكونات على اختلافها في تمثيل ذاتها داخل السلطة، وهو منطلقٌ في ظاهره برّاق وفي جوهره زائف لمَّا يجري تعمّد استعماله بصورة غرضية.
وفي خضّم هذا التأويل الأداتي لظاهرة السلطة بوصفها منظوراً طائفياً أو عرقياً يغيب المنظورُ الوطني الجامع لتلك الهويات، ويتلاشى الحُلم المدني بالدولة الذي طالما نادى به هذا “المثقف”، ومن بعد، يتنازل عنه طوعاً، ليرتضي لنفسه سقفاً طائفياً خفيضاً أو قومياً شوفينياً.. فتصبح الدولة التي يرتضيها ها هنا دولة شوفينية أو دولة طائفية ناقصة imperfect غير مكتفية بنفسها (شرعيتها، نظامها، أخلاقياتها، وقيمها)، ولا تستطيع تَخيُل وجودها من دون وجود طوائف، ولا تستكين تلك الأخيرة إلى رؤية ذاتها مُنعزِلة عن حمى تلك الدولة الحارسة. فالدولة، في هذا المستوى، تحتاج إلى تمثيل تلك الطوائف فيها، والطوائف تؤمِّن دوامَها بدوامِ تلك الدولة الناقصة. وحري بهذه الدولة ألا تطلب لوجودها واشتغالها ما يخرج عن مجالها الخاص، باعتبار أن مجالها هو واقع العقل. وهو مما يَتنكَّر له المثقفُ العراقي الذي شرع ابتداءً بالدفاع عما هو مَناطٌ أخلاقي متعالي، لينتهي به الحال، إلى ما نراه مطمحاً سياسياً مصالحياً فجاً.
لست أقول جازماً هنا عما يتبناه المثقف من تواضعات بأنه ضرب من ضروب الخيانة المقصودة، إلا أنني استطيع وصف ذلك بأنه سلوك لا ينفصل عن مجمل الخلل العام الذي أصاب البنى المؤسسية للدولة على مر تاريخها، فطالما لا يمكنني معاينة المجتمع المحلي وفهمه من دون توصيف كياناته العرقية والمذهبية الثلاثة، أو لا يسعني تخيّل البنيان السياسي الدستوري الحالي من دون منظور فيدرالي مبني على اعتبارات سياسية وتاريخية، فإنه كذلك لا يسعني النظر إلى المثقف بعيداً عن التَخلِّع والتآكل البنيوي الذي مُنيت به الطبقةُ المتوسطة، تلك الطبقة الضامنة للتنوع، والصانعة للقيم الثقافية المُتعدِدة.
لذلك ليس غريباً على هذا المثقف أن يرى نفسه عضواً في بنيةٍ جماعية مُضطهدة، طائفة كانت أو عرقا أو حتى طبقة، طالما أن وجوده القيمي تَشكَّل في سياق بنية سياسية شمولية، وهذه البنية الشمولية نفسها قامت على ركام بنية اجتماعية تراثية محلية بكل ما تحمله من مفاهيم محدَّدة عن الجماعة والفرد.. ومن شأن ذلك كله أن يُسهم في صنعِ ذلك المثقفٍ والخطابٍ الأيديولوجي الخاص به.