بعد ما شاب

الصفحة الاخيرة 2023/04/02
...

محمد غازي الاخرس
أن تأتي الأشياء متأخرة خير من ألا تأتي، فكرة يلخصها قولهم: بعد ما شاب ودوه للكتاب، قاصدين أولئك الذين يتجاوزهم قطار الطفولة، فيلتحقون بالكتاتيب في صباهم. والكتاتيب هذه مدارس عرفها أجدادنا في الماضي، يوم لم تكن قد ظهرت المدارس المدنية بعد، أو لم تكن قد انتشرت بما يكفي. وكان الكتّاب يرتبط بشخص يسمى الملا، يتكفل بتعليم القراءة والكتابة اعتمادا على تحفيظ القرآن الكريم وكتابته للأولاد، وأثناء الدراسة يغدق الأهل على الملا من عطاياهم العينية والمالية لمن كان ميسوراً. بالعودة إلى المثل، فإنه يضرب لكل من يدرك أمراً بعد فوات أوانه، كأن يتزوج وهو في الخمسين أو يشرع بالدراسة في وقت متأخر من عمره، أو أن يحظى بوظيفة حكومية في الوقت الضائع. وهذا بالضبط ما جرى معي في حالتين؛ في دراسة الأدب العربي، وفي الوظيفة الحكومية التي باشرت بها منذ شهر تقريباً، وسبحان من جعل الأمرين مرتبطين ببعض. بالنسبة للدراسة، أنا في الأصل من الحاصلين على البكالوريوس في اللغة الفرنسية عام 1994. ارتكبت حينها غلطة الشاطر ولم آخذ بنصيحة بعض أصدقائي الذين أشاروا إليّ بالأدب العربي، كوني شاعراً ومهووساً بالتراث. حين تقدمت لخطبة الفرنسية، سألتني لجنة الاختبار، وكانت الدكتورة مي عبدالكريم على رأسها، عن سبب رغبتي بدراسة الفرنسية، فقلت لهم بحماس طفولي "أنا شاعر وأريد الاطلاع على الأدب الفرنسي بلغته"، فابتسمت د. مي، والتفتت لزميلها سائلة بـ(حسجه) فهمتها فوراً - مو الطالب فلان هم خطية كان شاعر وترقن قيده؟ فأجبت - اني ما راح يترقن قيدي!. 

بعد ذلك، مضى قطار العمر، واكتشفت متأخراً أنني أخطأت، فكان أن تحولت شهادة الفرنسية إلى ورقة متهرئة الحروف، ورقة لم أمارس بها الاختصاص الذي أنفقت فيه خمس سنوات. كان شغفي بالأحرى هو الأدب العربي الذي تشربته منذ صباي، لهذا أردت تصحيح الخطأ بعد التخرج بسنتين أو ثلاث، إذ قررت وزارة التعليم العالي إتاحة الفرصة لمن فاتهم القطار لاكمال دراستهم بدوام مسائي. أخذت استمارة التقديم وعزمت، لكن ظروف الحياة الصعبة اضطرتني إلى تأجيل الأمر مرات ومرات، وظللت كذلك عاماً بعد عام وصولاً  إلى سنة 2008، أي بعد بلوغي 41 عاماً، فكان علي مزاملة شباب بعمر أبنائي. ولأنني أتلذذ بالتعب، فقد ثملت بالدراسة التي أحب وقررت إكمال الماجستير، وأنا في الخامسة والأربعين. ثم بمجرد انتهائي، سارعت إلى صعود آخر كابينة للدكتوراه وأنا في الخمسين، وأتذكر أن الموظفة أحصت عمري بالأيام وهي تبتسم وتقول : لو مولود بشهر كذا لما كان لك الحق بالدراسةّ. هذا ما كان في الدراسة، أما الوظيفة الحكومية فو الذي نفسي بيده، ما كنت لأحسب لها حساباً، وما كانت لتخطر في ذهني أبداً. نعم، حدث أنه عرض علي الأمر في الماضي ورفضت، ثم عرض مرة أخرى ورفضت، فلكأنني كنت أعلم بأن الوقت لم يحن آنذاك، وأن الجامعة تنتظرني، وها أنا الآن بين يديها!.

بعد ما شاب، عينوه بالجامعة!