سالم مذكور.. فنان {الانطباعية العراقية}

ثقافة 2023/06/03
...

 سليم سوزه


في لحظة بحثٍ على موقع “غوغل”، ظهرت أمامي لوحة جميلة لم أرها من قبل ولم أعرف رسّامها. تسمّرت أمامها دقائقَ، مذهولاً من جمال ما رأيت. قادني الفضول إلى البحث عن الفنان الذي رسمها، فظهر اسمه سالم مذكور، وهو فنان عراقي يشبه الممثل المصري أحمد حلمي للغاية كأنه توأمه.  يملك هذا الفنان الموهوب احساساً راقياً ويرسم بطريقة الانطباعيين الروس الكبار.  

 وما دمت قد ذكرت الانطباعية، أود الكتابة عن انطباعاتي الأولى حين شاهدت عدداً من لوحات مذكور التي رسمها عن الاهوار العراقية وصبيّاتها الصغيرة. 

لم أشأ أن أقرأ ما كُتِب عن هذا الفنان وأعماله، ولم أطلّع حتى على حياته وسيرته الشخصية. كل ما أعرفه عنه أنه فنان عراقي فحسب، ذلك لأنني أردت التعبير عن انطباعاتي الشخصية المحضة قبل أن تتأثر ربما بكتابات مَن كتبَ عنه من قبل. 

في البدء، وُلِدَت المدرسة الفنية المُسماة بالانطباعية من صدفة أنيقة تأمّل فيها فنان الحداثة ذاته، وصار لا يجسّد سوى انطباعه عمّا يراه من حوله في لحظةٍ ما. 

لم يعد يرسم فنان الانطباعية إلّا احساسه وما انطبع في باله، غير مبالٍ بما يفكر فيه المتلقي. 

صنعت هذه الخصلة إشكالية كبيرة بالنسبة للفنانين الانطباعيين الروّاد، إذ لم يفهمهم أحد وصاروا هدفاً للسخرية والنقد والتسقيط في بدايات الأمر. 

ما الحكمة من الرسم إن لم يكن شيئاً يفهمه المتلقّي؟

هكذا أعاب “الواقعيون” التقليديون أعمال هذه المدرسة، معتقدين أن الرسم شكل ولون وفسحة خضراء أو بحيرة يتوسّطها زورق فحسب، لا فكرة أو انطباع شخصي. 

ورغم أن الانطباعية وُلِدت في فرنسا مع الفنان كلود مونيه، إلّا أنها فقدت فرنسيتها حين تلقّفها فنانو أوروبا من بلدان مختلفة، وأضافوا عليها تقنيات جديدة من مدراس فنية عدة. 

صارت الانطباعية انطباعيات عدة، جذرها في فرنسا وفروعها في مختلف بلدان العالم. 

فمثلاً، الانطباعية الروسية، أو ما تُسمى بالانطباعية الواقعية كذلك، تختلف عن الانطباعية الفرنسية في كون الأولى أقرب الى الواقعية وتحتوي على موضوعٍ في الغالب، خلافاً للفرنسية التي يغيب فيها الموضوع. 

كما أن أهم سمات الانطباعية الواقعية الروسية أنها لا تبالغ في ضربات فرشاتها مقارنةً بالانطباعية الفرنسية. 

ميزة الانطباعية الروسية أنها مدرسة ذات خصوصية فريدة لأنها تركز على “الوطنية” ورسم تفاصيل الحياة اليومية داخل الدولة، الوطن، المدرسة، المدينة في شيءٍ من الحنين المستمر إلى الحياة ماضياً وحاضراً. 

استثمر الفنان سالم مذكور ثيمة الحنين هذه في الانطباعية الروسية ووظّفها في لوحات الأهوار خاصته. ومثل أي فنان آخر، مرَّ مذكور بمراحل عدة وانتقالات فنية متعددة تغيّرت فيها أساليبه ومواضيعه، لكنني هنا أكتب عن تجربته في رسم لوحات الأهوار حصراً. 

ينتمي أسلوب الفنان مذكور إلى الانطباعية الروسية، إلّا أنها انطباعية روسية بنكهة الوجع الريفي العراقي. 

ربما كانت ثيمة الأهوار قد استُهلِكَت في اللوحة العراقية، لكن مذكور أعاد انتاجها انطباعياً بطريقة مختلفة واسلوب مغاير، الأسلوب الذي حافظ فيه على “عراقية” لوحته رغم اتكائه على نمط الانطباعية الروسية، أي تلك التي مزجت “انطباع” الفنان مع “واقعيته” فأضحت أكثر جمالاً من أمها الفرنسية. 

في قماشة مذكور، تظهر فنون الفرشاة كلها. ضربات رشيقة بأطراف ريشته وألوان تعكس شعور الفتاة الفلّاحة لحظة عملها في الأهوار او البساتين، ناهيك عن الضوء الذي يسقط على مركز اللوحة وينتقل إلى اطرافها بتوازنٍ ذكي. 

لم يرسم مذكور موضوع لوحته فحسب، بل رسمنا نحن أيضاً جمهوره ومتلقيه عندما زجّ بأحاسيسنا ومشاعرنا وسط تفاصيل رسوماته تلك. كلما أنظر إلى لوحة من لوحات مذكور، أتخيّل نفسي فيها، وكأنني كنت موجوداً في المكان الذي رسمه وفي الزمان الذي صوّره.

تلك هي ميزة الفنانين الكبار الذين يقتلون كل اغتراب حاصل بين اللوحة والمتلقي ويصنعون من لوحاتهم المرسومة بيئةً يحلم المرء أن يكون جزءاً منها. 

بالنسبة لي، سالم مذكور هو فنان “الانطباعية العراقية” بلا منازع. 

فنان نَسَجَتْ فرشاته قصيدةً للانكسارات الضوئية على سطح الأهوار وفي عمق البساتين، وارتقى بأعماله هذه إلى “واقعية سحرية” تفوق الاثنين، الانطباعية والواقعية، في آنٍ واحد.