طقوس خاصة

ثقافة 2023/06/03
...

 علي لفتة سعيد


ما معنى طقوس الكتابة، وما معنى أن تكون للأديب طقوسه الخاصة لكي ينتج الأدب؟

أعتقد أن الكتابة ليست موهبةً إضافيةً للأديب أو أنها جزءٌ متأخّر عن الاهتمامات الحياتية الأخرى كالوظيفة اليومية التي يشتغل بها الأديب. فالطقوس تعني استحضار ما يسبق الكتابة. ولأنها ليست عباديةـ فإن الطقوس هنا لن تكون ثابتة وليست هي مران استنطاقي للحالة التي يمرّ بها الأديب في المرحلة التي يتهيّأ فيها للكتابة، وبالتالي فإنها طقوسٌ إن وجدت تكاد تكون خاصّة بشكلٍ مفرطٍ أكثر منها طقوس تهم الأخرين، ولهذا فإن الطقوس إن حضرت، فإن هذا يعني أن الأديب وصل الى مرحلة التفرّع التمام للكتابة كما هي لدى الكتّاب الكبار في العالم ولكن السؤال.. هل كان هؤلاء في مراحلهم الأولى يمارسون الطقوس الخاصة التي تسبق الكتابة أو الطقوس التي تصاحب الكتابة وما بعدها؟

لا أعتقد ذلك.. فالطقوس الكتابية لا تعني استحضار أرواح تساعد على نضج الكتابة بقدر ما هي استعدادات  أولية لبدء الإنتاج. فالأدب إنتاج ويحتاج الى استحضار المواد الأولية التي قد تعد طقوسًا أو تعد استحضارًا لابد منه. 

على الصعيد الشخصي فأنا أعيش منذ سنوات مع مهنتين مهمّتين هما: المهنة المعيشية التي تتطلّب التواجد في الحياة على رمقها الرزقي الذي يتطلّب الفعل العضلي والفكري معي. ومهنة الكتابة التي تحوّلت من كونها موهبة الى حرفة إنتاجية تكاد كون هي المفعول الأول الكياني. ولكن، كيف هي طقوسي الخاصة؟ 

لا أعتقد أني أملك الطقوس لأن المهنة الأولى التي تحوّلت من مجهودٍ عضلي الى مجهودٍ فكري، حيث العمل بالصحافة لم تزل ترافقني وهي التي تأخذ وقتًا من أجل ممارستها. وبالتالي فإن التفرّغ لم يحصل بعد لكي أتفرّغ للكتابة الإبداعية. ولذا فإن الطقوس التي أمارسها لاستحضار أرواح الكتابة الأدبية، والتي تتمثّل من كونها اشتراطات الكتابة نفسها أكثر من منها ما يرافقها من تهيئة المكان واختيار الساعة كوقتٍ دليل للكتابة واستحباب الصمت أو الانعزال. أو السفر ما قبل الكتابة لتهيئة الحالة النفسية. هذه وغيرها عبارة عن مواد مستهلكة لمن هم من أمثالي يعيشون في بلدٍ غير مستقرّ سياسيًا واقتصاديًا مثلما يعيشون مهنًا غير مستقرّة ماديًا أو زمنيًا، أو أنهم ولدوا لكي يقتنصوا الوقت من زمن محتشدٍ بالأعمال والعلاقات الاجتماعية، كون الأديب مرتبطا بالجماعة التي تحيط به.

ولهذا فإن أهم ما يمكن تأشيره من طقوس هو أنه استحضر الفكرة التي أريد الكتابة عنها.. ثمة ما يدور في المخيّلة الكثير من الأفكار، ولكن كيف يمكن صيدَ واحدةٍ منها لتمرّ بمرحلةٍ شفاهية، تجعلني أعيش معها لعدّة أيامٍ وترافقني في الكثير من الأحيان، من أجل معرفة ماهيّة هذه الفكرة التي قد تحتاج الى قراءةٍ واطّلاعٍ وربما الحاجة الى مراجع كثيرة، أو أنها تحتاج الى تبويب معلوماتي، أو أنها فكرةٌ لحكايةٍ روائيةٍ أو قصة أو قصيدة؟.

إن الطقوس هنا تختلف من منتجٍ وآخر، مثلما تختلف من إنتاجِ جنسٍ أدبي عن آخر، وأعلى مراحل الطقوس في المرحلة الشفاهية التي تسبق الكتابة هي الرواية. ليس التفكير بشخوصها وأسمائهم وأماكنهم، بل في الفكرة ذاتها التي أودّ طرحها عبر صورةٍ هلاميةٍ لا تتبيّن حتى أمسك القلم. وهو الأمر ذاته بالنسبة للقصة، ولكن بشكل أقل في تكون النصّ الشعري، كونها بالنسبة لي لحظة القبض على فعل الكتابة المباشرة، لأن النصّ الشعري لا يحتاج الى تخطيطٍ مسبقٍ، بقدر ما يحتاج الى التماهي مع المخيّلة الإزاحية للنص وعنوانه، ليس القصد عنوان النصّ، بل عنوان المفردة التي تدور في المخيّلة، لذا هي عملية انسكاب آني بالنسبة لي.

إن طقوس الكتابة لا تتعدّى عن فكرةٍ في مرحلتها الشفاهية. وتهيئة وقتٍ مقتنصٍ من الوقت الكلّي، ودائما ما يكون ما بعد منتصف الليل، الذي تحوّل مع تقدّم لعمر الى أوّل النهار وأوّل المساء.