النسوية: تمكين أم تسكين؟

ثقافة 2023/06/03
...

 د. نادية هناوي 

                      

النسوية مفردة يكثر تداولها من دون توفر أساسات فهم راسخ لها، وتُفهم في أغلب الأحيان بوصفها حركة من حركات التحرر والتنوير أو مشروعا من مشاريع الإصلاح والنهوض أو توجها من توجهات الثقافة ما بعد الحداثية، ونادرا ما ينظر إلى النسوية كفلسفة كلية أو فكر قائم بذاته، أما استكثارا على المرأة كليتها أو اعتقادا أن لا إمكانيات لها تؤهلها لنسوية صانعة لفكر خاص بالنساء. 

وإذا كان هذا هو حال النسوية من لدن بعض المهتمين بالدفاع عنها، فإن من الطبيعي ألا يتعدى فهم القطاعات العامة المجتمعية لمعنى النسوية حدود الحقوق المطلبية المشروعة مما هو معتاد وأمر طبيعي في أي مجتمع. إن هذا الفهم التطبيقي الذي فيه النسوية تعني مسائل لها صلة مباشرة بنيل الحقوق مقابل تأدية الواجبات هو السائد اليوم بكل ما يرافق هذا الفهم من قصور واعتلال ورتابة والتباس في المنطلقات والمؤديات وهي بمثابة مصدات تحجب رؤية النسوية على حقيقتها وتحول دون التعمق في اطروحاتها والكشف عن إمكانياتها.

وعلى الرغم مما أسفرت عنه الدراسات النسوية اليوم من محصلات نظرية، فان لا تطبيقات عملية تدلل على نجاعتها وفاعلية تأثيرها في ما يمكن للنسوية العربية أن تبلغه إن هي اتخذت من الجانب الفكري هدفا بل بالعكس ستستمر النسوية في الدوامة نفسها من الرتابة المخيبة للامال. إن فهم النسوية فهما حقيقيا يعني التصدي ومناهضة كل صور تجهيل وضعها عند من يرون أن النسوية والمرأة شئ واحد أو أن الوعي النسوي ليس له تاريخ ولا فلسفة. ومن ثم تنقلب صورة النسوية فتبدو محتاجة وعيا وتمكينا ودعما من المجتمع كي تقدر على القيام بالأدوار المطلوبة منها وتساهم من ثم في النهوض واصلاح حالها ومعالجة سلبياتها، فهل بعد هذا التصور للتمكين ما هو أكثر اجحافا بحق النسوية؟ وأي نهوض يراد للمرأة وهي كائن تمكيني؟ وهل يمكن للمجتمع برمته أن ينهض من دون امرأة فيها تتجلى النسوية؟ 

لا مغالاة إذا قلنا إن الضرر الذي يطال النسوية كبير من جراء النظر إليها كمفهوم فيه المرأة فرد موضوع تحت شعار" التمكين". فبهذه الصورة يغدو البون شاسعا بين النسوية كفكر نظري والمرأة كواقع عملي، فلا يتعدى فهمهما معا تلك الوضعية المطلبية المعروفة والمعهودة التي فيها الظفر بالحقوق هو الهدف، فكأن من غير الممكن للمرأة أن تحقق أي شيء إن هي لم تجد التمكين الذي يوفره مجتمع يوصف بالعموم بأنه ذكوري، وكأن النسوية نشاط نفعي مخصوصة به النساء فقط وأن الرجال مستهدفون كغرماء لا بد من التغلب عليهم عبر إحراز أشواط أو امتلاك صفات، والبغية هي التساوي معهم وربما التفوق عليهم.

وهذه المغالبة بالمساواة هي فهم مبتور للنسوية، وعندها تبدو الإعاقة الفكرية كبيرة أمام ضخامة الدور الموكلة بتأديته أو بالاحرى المفروض عليها أن تؤديه. ولا سبيل الى تقويم هذا الفهم ما لم تكن للنسوية قاعدة فكرية تتشكل نظريا وتطبق عمليا انطلاقا من وصف المرأة فردا مستقلا في مجموع نسوي ومن وصف المجموع النسوي كيانا مختلفا فكرا وعملا في أداء المهام والتمظهر بمختلف الأشكال والمستويات والوظائف داخل مجتمع فيه الرجال والنساء متمكنون بما لديهم من اختلافات تفرضها الطبيعة وتوجبها الحياة.

ومن دون هذا التركيز على العمل جنبا إلى جنب الفكر لن تخرج النسوية من دائرة التمكين وستبقى تراوح في مكانها مبتورة ومعاقة. ومع ضياع الفهم الحقيقي للنسوية يضيع تاريخ طويل من نضال نساء العالم. ويصير مسكوتا عنه ضمن دوامة كبيرة من التهميش والتغييب والإقصاء والتشويه. وما ضر الذكورية التي تسيدت أن تجد نفسها مثالا فعليا يرجى بلوغه لكن الضرر هو في النسوية التي تجد نفسها بلا تاريخ ولا نظام تؤسسه. وحقيقة الامر أنهما ــ أي النظام والتاريخ ــ موجودان وعتيدان ولكن الذي ينبغي على النسوية فعله هو أن تثق بإمكانياتها في تمثل ذاتها وتاريخها الذي كانت فيه المركزية للمرأة مستوعبة حقيقة ما لها من فكر خاص وحر، به تستطيع اثبات فاعليتها في بناء النظام العام بالتشارك والتوازي وليس بالتساوي أو المغالبة. وما كان للنظام الذكوري أن يتسيد لولا انه تمكن من قمع النسوية كفكر حر، فضاع من ثم دورها المشهود في تأسيس النظام وغاب ذكرها من صفحات التاريخ الذي للمرأة فيه أدوار لا تنكر، وللمجموع النسوي أهمية لكن كل ذلك صار في خبر كان ثانويا وتابعا على اختلاف صعد الحياة. 

من هنا يغدو حقيقا بالنسوية ألا تجعل من التمكين ذريعة بها تستكين قواها فيتقلص دورها في المطالبة بالدعم كأمر وحيد ورئيس، بل الأهم هو أن تستوعب تاريخها بقصد استعادة ذاك الوضع الذي فيه للمرأة أدوار وفكر وتواريخ، لا مجال للاستغناء عن أي منها. أي استعادة تلك الصورة التي فيها للنساء قوة وفاعلية وتميز واستقلال. وللرجل في ذلك كله دور وأهمية وللمجموع الذكوري تأثر وتأثير في الواقع النسوي بعامة. 

وإذا كانت ماري ولستونكرافت( 1759- 1779) أول امرأة دافعت عن النسوية في العصر الحديث، فإن من أوائل الرجال المدافعين عن النسوية الاشتراكي الفرنسي شارل فورييه 

( 1772- 1837 )الذي اتخذ من وضع النساء مقياسا لتحديد مدى تقدم المجتمع ومنهم ايضا الانجليزي جون ستيوارت ميل ( 1806ـ1873 ) المعروف بمبادئه الليبرالية وقد اخذ على النساء قبولهن بما يرسمه لهن الرجال من واقع، (يقبلن به طواعية ويشتركن فيه بارادتهن بغير شكوى أو تذمر وان كان هناك عدد كبير من النساء لا يقبلن به ومنذ ان اصبح للنساء القدرة على تدوين مشاعرهن والتعبير عنها عن طريق الكتابة.. سجل عدد متزايد منهن احتجاجهن ضد الوضع الاجتماعي القائم) ورفض ما عليه المرأة من استكانة تجعلها مقتنعة بحالها ككائن ضعيف يطاله كثير من الحيف. لانها بهذه القناعة لن تنال حقوقها ولن ينفّذ أي وعد بالحصول عليها. وما جعل للذكورية سلطة ــ بحسب ميل ــ هو أنها عملت على استعباد النساء حتى تمكنت من ذلك بطريقتين: الاولى بمنح نفسها، اي الذكورية، حق اعطاء الفرصة بالتشكل والتمكين والثانية بما اتخذته الذكورية وكررته بوصفها ذاتا لسلطة. وليس في الخضوع لهذه السلطة اجتماعيا أي استقلالية لان الاستقلال سيعني الانفلات والهمجية واللاأخلاقية التي تؤدي بالانسان الى التهلكة.

وبهذا الشكل صارت هذه السلطة حاكما وصار غيرها محكوما بالأخلاق التي يرى فيها ستيوارت نوعا معينا من العنف. وإذا كانت الذات الذكورية هي المهينة فإن الذات الأنثوية هي التي ستتحلى بهذا العنف وستمارسه أخلاقيا مرة بعد مرة فتصقل هذه الذات كائنا انعكاسيا. وهذا هو ما دفع نيتشه إلى التفكير في الأخلاق بوصفها نوعا من المرض. وسمى فرويد هذا المرض بالميلانخوليا الجندرية وتعني حالة الحزن غير المكتمل التي منها تتشكل تماهيات الأنا فيندمج الموضوع المنقود ويحفظ وهميا في الأنا  ولعل أول سبيل للإمساك بخيوط هذه الإشكالية يتمثل في فهم معنى النسوية ومعرفة موقع المرأة من المرأة وهما معا من المجموع النسوي. ولا معرفة من دون التفكير في ما للمفاهيم الثلاثة (المرأة، النساء، النسوية) من دلالات وتحديد إمكانيات كل مفهوم منها وفهم علاقة الواحد منها بالآخر وعلاقة الثلاثة كمجموع بالآخر أيضا. وعندها سيغدو الاجتياز لعتبات كثيرة مادية وفكرية ممكنا كي تكون النسوية متمكنة ذاتيا من العمل الجاد مع الذكورية، فتتضح المعالم وتتحدد الأبعاد وقد وضعت المرأة لبنات صرح جديد على طريق تغيير واقعها وتوكيد مركزية وجودها.