للأشياء كلّها رائحة وطعم

ثقافة 2023/06/04
...

 محمد القاسم

العالم المتخيل في الذاكرة لا يتم تأثيثه من معمار رائحة أجسادنا الشخصية وغرف نومنا وأماكن اللعب فحسب، بل من الروائح التي تحترف الهجرة والسفر بامتداد هذا الفضاء والكون، وهذا ما سارت عليه سيسيل تولاس (النرويجية الأصل تعيش في بولندا وروسيا) بجمعها أرشيفاً من الروائح وعملت على دمج البحث العلمي عن عالم الروائح بالإبداع الفني، كونها حاصلة على الدكتوراه في الكيمياء، راحت تراقب وتشم كل شيء من الفاكهة والقهوة والتبغ والخبز والجدران لتحتفظ بأكثر من عشرة آلاف رائحة مختلفة، لتقدم سلسلة من العروض الفنية بعنوان (رائحة الخوف) و(الخوف من الرائحة، 2017) جمعت فيه رائحة أشخاص مصابين بالخوف، بعدها اقامت معارض عن مدن مختارة من العالم مثل مكسيكو ستي او كيب تاون او مدن سنغافورة وملبورن الأسترالية، وتستغرق سيسل تولاس في افتراضها ان رائحة الأمكنة والفضاءات يمكن استنشاقها وبناء صور متخيلة عنها في الذهن لوصفها والتواصل من خلالها.
كلما اكتشفنا رائحة وطعما جديدين هي معرفة مضافة، تزيد اندهاشنا من تنوع وكثافة الرائحة لجميع الأشياء من الطعام الى العطر الذي تفرزه المعادن، والازهار، والأخشاب، باختلاف أنواعها ومصادرها، قال فكتور هيجو من يحب الأشكال والصور والأجساد، الزمن سيدمر كل الصفات ستتغير الملامح وتفاصيل الوجه، حاول أن تعشق الأرواح، لأنك ستلتقي بها مرة أخرى، لنستبدل الأرواح بكلمة الطعم أو الرائحة ليتم المعنى، أعرف أنّني صادفت مرة هذا المذاق في سنوات مضت ربما في حفل ما أو السجن أو في فندق أسكنه ليوم واحد، لنتذكر زوسكند ورواية العطر ليتضح أن هذا العالم ما هو إلا رائحة وعطر المكان.
إنَّ البحث والتأمل في جماليات الأمكنة المتغيرة، يفضي إلى أن كل حيز متخيل هو حتما مكان ما عشنا فيه، تتشكّل ذكرياتنا ومواقفنا من رائحة البيئة والمحيط، يتضح الوعي فينا إذا قمنا بإزاحة كل يقين.
إن الفضاء المتخيل للعروض البصريّة عند الفنان البرازيلي ارنستو نيتو التي تستثمر رائحة الأمكنة وفاعلية الحواس في التواصل، هذه الاشتغالات المعاصرة في الفن تعلن تحولا في استيعاب المتغيرات الحاصلة في العالم بضاغط هيمنة الجدران والأبنية الشاهقة، ولتقدم نصوصا أدائيّة تشبه حلم تدركه الحواس ويتحول إلى وصفة سحريَّة تمكننا من تمثل البعد الجمالي والتصوري للأمكنة من حولنا.  
تمت مراقبة اختلاف الرائحة في الأمكنة والأشياء والسطوح معدن وزجاج وخشب ومحاولة كشف آليّات بنائها وطرائق حدوثها عند (كيت ماكلين عام 2018) وهي مصممة كرافيك وتعمل على إنشاء (خريطة الروائح) لمدن مختلفة حول العالم مثل ميلانو وباريس، دعت ماكلين على إقامة جولات (لتدريب حاسّة الشم) في حدائق نيويورك وطلبت من المشاركين وصف الروائح بدقة مثل رائحة العشق أو الفراق أو ربما رائحة تعلن هوية شخصا نعرفه موجودة بين لحاء الأشجار أو الأرصفة، لا مجرد التعرف عليها، وتفترض أن لكل مدينة مجموعة من الروائح الدائمة والمتجذرة لتكسب هويتها، بينما هناك رائحة عابرة مؤقتة لها تنبعث من مقهى أو مخبز أو أشخاص يسيرون بسرعة في شارع
مزدحم.
إنَّ محو الطعم والرائحة من حياتنا بمثابة خسارة جلد الوجه بعملية تقشير بمفاتيح صدئة النكهة، نحن نتناول الأطعمة ويتملكنا شعور بالبهجة بفعل حاسّة الشم والتذوق؛ الرائحة في بيوتنا أو الشوارع ضرورة هي هوية المكان وخصوصيّة المدن، الرائحة تبلغنا بالخطر حين نشم دخانا أو تسرّب غاز المطبخ، ماذا لو خسرت أمي حاسة الشم وهي التي لا تبصرني بعيونها، بل تشمّني بأنفها سوف لن تتعرف عليه أبدا، لتكون جميع  الحكايات والأساطير متشابهة حتى وإن بدت مختلفة في مظهرها يشكلها ويحكم ايقاعها من يملك السلطة والنظام.
بالنهاية إذن لا شيء يمرُّ في هذا الفضاء التخيلي (وجودنا في الحياة) إلا ونحتفظ له بطعم ورائحة، في كورونا لم يعد خطر الإصابة أو احتمال الموت هو الأهم، بل الأمر المروع حرمان المصابين من حاسة الشم والتذوق، ليتساوى بالنهاية طعم النعناع البري مع رذاذ الفلفل، يتشابه الملح مع قطع الحلوى، نخسر رائحة الهواء ومتعة استنشاق عطر نعشقه بأفراط او رفضنا لرائحة الاتربة والدخان التي باتت تغلّف سماء المدن.