الفيلسوف والسلطة

ثقافة 2023/06/04
...

  حازم رعد
أهمية الفيلسوف تكمن في توفره على منظومة فكريَّة نسقيَّة متكاملة، وكذلك في قدرته على تحليل الأشياء بتجرد وموضوعيَّة بعيداً عن الإملاءات أو تأثير المسبقات ونحو ذلك، مما يجعل اجاباته ومداخلاته قريبة من الحقيقة وصحيحة، فالفيلسوف ليس متشردا فكريا بتعبير إين راند يأخذ من هواه فكرة ومن تلك التجربة خبرة، ليشكل منها تصورا جزئيا عن مشكلة أو ظاهرة أو موضوعة ما، بل طلبه الدائم عن الحقيقة ونشدانه المتواصل عن الحكمة مكناه من تكوين وعي متأصل وشامل وكلي عن الكون والحياة والإنسان. وتبرز أهمية الفيلسوف من فكرة أن الفلسفة ضرورة لأي إنسان، وأن الفيلسوف يمكنه أن يقدم للإنسانية معرفة ناضجة ورؤية متكاملة عن الحياة وسياسة الدولة ومقاربات يستشرف في المستقبل «تخطيط للمستقبل».
 فاذا أولته السلطة ذلك الاهتمام والاعتداد والتفتت إليه لتنتفع منه وتفيد عنه «فالفيلسوف روح الأمة وقلبها النابض ومدادها وخزان فكرها وينبوع معرفتها»، فعندما تعمل السلطة على استثمار الفيلسوف بالشكل الصحيح والمناسب وتأخذ عنه الرؤى والتصورات والنبوءات واستشرافه للمستقبل وصياغته للمفاهيم التي من المفترض أن تكون هي سياق عمل السلطة والخطوط العريضة التي تحدد برنامج عملها وفعلها و [أن شرعا كهذا من الممكن أن يقوم بشرط أن يكون الملك فيلسوفاً، لأنه هو الذي يضع الناموس ويحافظ عليه فيما بعد] كما يقول ابن رشد في كتابه تلخيص السياسة.
وثم أن الفيلسوف لا يرتبط مباشرة بالناس «رغم أهمية انتشار أفكاره فيما بينهم وبين ظهرانيهم بطريقة، ولغة يفهمونها ويفيدون منها «فهو ليس مثقفاً عمومياً ولا ناشطاً ولا روائياً أو مسرحياً» ليحتك مباشرة مع الجمهور، نعم اشتغالات الفيلسوف أن يصنع محتويات ومفاهيم أولئك النخبة المنخرطين في المجال العام، ولذا يحرّض جملة من الفلاسفة ولعلهم الخط والتيار الذي يتصل بفلسفة افلاطون على أن الفيلسوف أما أن يكون على رأس هرم الدولة «حاكما» أو مستشاراً يمارس تقديم المشورة ويصحح المفاهيم للسلطة على شرط ألا يمارس السلطة بشخصه هو، ويكون في مواجهة مباشرة مع الجمهور، فإنَّ ذلك يحط من قدره ويعيق عمله، فالناس لا تتمكن من التعامل المباشر مع الفيلسوف وهو في السلطة، لأنّه يسعى الى تطبيق ما هو صائب ويبحث عن الحقيقة والناس ترغب في الحصول على مرادها وتحقيق دوافعها وإن كانت على طرفي نقيض مع الحقيقة ومع ما هو صواب فالناس تنظر إلى الاوهام على أنها يمكن لها التحقق بواسطة تدخل السلطة، ولذا تجدها دائما متذمرة من الاخفاقات التي بنتها مخيلة الجمهور على أساسات هشة موادها الأوهام، وما لا يمكن تحققه.
وقد اقترح ليو شتراوس الذي رؤية لتحقيق الاتفاق بين الفلسفة والسلطة السياسيّة، تقوم على أن تعتمد الدولة على الفلاسفة في إدارة الدولة بشكل غير مباشر، ولعل نشأة ما يُسمّى بتيار المحافظين الجدد في امريكا نتاج تلك الفكرة.
وبذا لا يمكن للفيلسوف مباشرة الحاكميّة حتى لا يقع فريسة الرأي العام وهو شعبوي في الغالب، بل ولا يمكن حسب المقاربة السابقة اطلاع عامة الناس على مراد الفيلسوف الحقيقي من خلال نحته للمفاهيم ووضعه للقواعد والنظم إلا عبر نخبة من صناع القرار وفاعلي السلطة والمثقفين والنشطاء والمسرحيين والروائيين، فهؤلاء أدوات الفيلسوف الذين يباشر من خلالهم أفكاره ومفاهيمه للعامة.
إنَّ الفيلسوف لا يهتم بصورة مباشرة للسلطة، أي لا يعنيه أن يكون له حظوة في أن يسند إليه منصب أو مسؤولية يأمر وينهي من خلالها، بل هو يرى ضرورة أن تنقاد السلطة لتوجيهات الفيلسوف، واقصد بالتوجيهات مجموعة المعرفة والدراسات التي تقدمها الفلسفة كنتاج لشخص أو نتاج لمؤسسة فلسفيّة تعنى بالتخطيط والدراسة والبحث عما يناسب ويحسّن وضع السلطة.
ثم أنه لو القينا نظرة على الدولة التي ترعى المجال الفلسفي، وتعمل على الاهتمام بالفلاسفة سنلاحظ أنها دول تنعم بالحرية وذيوع قيم الاعتراف والتسامح وقبول الآخر والعيش الامن المستقر المشترك ونجدها على المستوى المادي للحضارة متقدمة أو سائرة حثيثاً للتطور بحثاً عما يخفف معاناة شعوبها وما يوفر رفاههم وسعادتهم ولو كانت نسبيَّة.
والعكس صحيح كذلك.. فلو ألقينا نظرة على الدولة التي لا ترعى للفلسفة مكانة ولا توليها أهمية نراها غاطسة في وحل التشتت والفرقة وتعصف بها عاتيات التشدد والتطرّف وترزح تحت نير العبودية وتسلط الدكتاتوريات وتخرصات العقل الجمعي للجماعات المؤدلجة، حتى لو كانت سائرة نسبياً في طريق التقدم التقني والتكنولوجي، فهذا لا يعني تقدمها على مستوى القيم والمنظومة الحقوقيَّة للإنسان.
وحاصل فكرة المثالين أعلاه تتلخص في عبارة أن الناس على دين ملوكها، فلو أن اولئك الملوك من الذين يعرفون قدر المعرفة ويحترمون نتاجات الفلاسفة ويقدرونها حق تقديرها، فإنَّ ذلك يظهر على أفعالهم ويتصور بممارساتهم، فلو استعانوا بالفلاسفة لعرف الناس قدر الفلسفة وأهميتها، لأنَّ الناس على دين الملوك والعكس صحيح، أيضاً فيما لو جحدوا قدر الفلسفة واستخفوا بها، اذاً سيصنع الناس مثل صنيع ملوكهم، لأنَّ الناس على دينهم كما أسلفنا. وهكذا تكتمل أمامنا الفكرة وتتضح أهمية الفيلسوف وضرورة أن يدير دفة الحكم بشكل غير مباشر وغير معلن، لأنّه الأكثر قدرة على توفير اللازم من المعرفة والارشاد والمشورة لجعل الحكم رشيداً ويصوّب وجهته بشكل يضمن سلامة المحكومين والدولة، وبذا ينفع الناس بمعرفته وفلسفته.