كالفينو في مواجهة القارئ

ثقافة 2023/06/06
...

  علي سعدون
الكتابة عن مجموعة {ماذا نفعل بدون كالفينو} لضياء جبيلي، يمكننا عدها مناسبة لتسليط الضوء على تقانات السرد وأهميتِها في اشتغالات القصة القصيرةِ، وهي بحق واحدة من الاشتغالات المبهرة في قصتنا العراقية، وقد عني بها اشد العناية في هذه المجموعة من خلال قطعه الطريق على زوائد الحكائي العادي، ذلك أن {جبيلي} يعتمد الخلاصات ولا يهدر وقته في استنزاف السرد بزوائد وترهلات لا تضيف شيئا إلى القصة القصيرة، بوصفها فنا راسخا ومهما في مدونتنا الثقافية.
بتقديري الشخصي البسيط، أن ضياء جبيلي يعمد إلى الاهتمام بالتعبيرات الشخصية/ العلامات الشخصية في السرد على وجه الدقة بحسب توصيف واشارة لـ"يان ما نفريد" صاحب أهم طروحات نظرية علم السرد الحديث، إذ إن التعبيرات أو العلامات الشخصية ستعكس بوضوح بالغ ثقافة السارد وميولَه وقيمه ومعتقداتِه، وبالتالي فهمَه لطبيعةِ ما يحصل في الحياة زمنا ومكانا وذاكرة أفرادٍ ومضمراتٍ اجتماعية ودينية وسياسية.
تفاعل كيميائي من نوع خاص جدا للوعي السردي الذي ينشأ عادةً من تعالق السارد الذكي بالتجربة الحياتية، سواء تلك التي يعيشها بالفعل ام التي يلتقطها بعين الفنان لا بعين سواه.. وفي الواقع ان كتابة السرد دون رؤية فنية حاذقة، لا يمكن أن نتحصل فيها على علامات شخصية في القص.
هذا هو بيت القصيد.
واعني هنا على وجه التحديد، العلامات الشخصية للسرد الذي يسمو بالقصة فيجعلها نصا مدهشا.
هذه الخصيصة في الواقع سيقترن وجودُها وتحقيقها بتوفر العتبات التداولية في القص، وستعني (وعي السارد بالمتلقي ودرجة توجهه اليه)، وإلّا ما فائدة الرطانات التي تسهب كثيرا في التوصيف والتداعي دون ان تقول شيئا.
اشير هنا إلى كمٍ هائل من القص يتكوّم في مكتباتنا دون ان يعني أحدا منا! بسبب من فقدانهِ للعلامات الشخصية والتداولية، وبالتالي أفقية الخطاب العادي الذي يخلو من الفن.
الفن الذي سنجده ماثلا للعيان في عدد من قصص هذه المجموعة: "ماذا نفعل بدون كالفينو" على سبيل المثال.
وسنقرأ قصة "المتسولة" بعناية، لنكتشف أن تداعيا من ارهاصات اليومي الذي نعيش، يمكنُه ان يجري في النص بطريقة مختلفة، طريقة تشبه إلى حدٍ كبير من يبحث عن اللمعان في اشد الاماكن حلكة وعتمة.. يلتقط "جبيلي" في هذه القصة سرّا من اسرار المتسولين، الذين يدورون حولنا كل يوم، فيبني عليه نصه المثير والمدهش، (المتسولة/ "ملامة") التي يقف البريطانيون – ايام غزوهم للبصرة بعد العام 2003 - على عتبةِ لافتتِها المكتوبة بالانكليزية كل صباح ولا يقفون عند سواها، الغزاة البريطانيون كانوا سببا مضمرا في كراهية ملامة.
ملامة التي تثير حسد الأخريات فيتقولن عليها ويتآمرن، وستكتشف النسوة بعد حين ان زوالها من الوجود هو المنحى الذي يجب ان تتجه اليه بوصلة الخلاص.
إذ تتفجّر امامنا دلالات الخطاب وتناقضاته عندما نجد "ملامة" ميتةً ومرميةً قرب النفايات وقد اثارت لافتتها صخب أوجاعنا في منطقة استلاب عراقية بامتياز... ثمة خزي شخصي يبثه ضياء جبيلي في وجوهنا وهو يقف بأسئلته حيال هذه الواقعة، نحن الذين اعتدنا ذلك المشهد المألوف للغاية، دون أن نتساءل ولو لمرة واحدة عن تلك الاسئلة المحيرة التي تنبثق عن مشهديات التسول البشع وغير الانساني.
هذه القصة معنية بالتحريض على الاسئلة التي تستدعيها انسنة الاشياء، لا لتحكي قصة عابرة لمتسولة قد تتكرر سحنتُها في شوارعِنا
وازقتِنا.
الاسئلة فقط هي التي تدفع بالقص إلى عبور الضفة النادرة والشخصية، التي تفصل بين منطقتينِ حرجتين، منطقة قص ابداعي تحمل في طياتِها نوعا من المعرفة، واخرى تسرد الوقائع دون ان نتوقف عندها ودون ان تثير فينا اي نوع من الاسئلة.
غياب الاسئلة في القص يشبه إلى حد كبير غياب اللمعان في العتمة..
وستاتي قصة "المستشفى التشيكي" وهي القصة الاولى في المجموعة، في سياق رومانسي غارقٍ في جماليات القص، في جوف محنة الجماليات التي تجيء هذه المرة وفق اشتغالات الفانتازيا، اعني ستنبثق هذه القصة من رحِم واقعة الاحتلال الي جرت وقائعُها بعد العام 2003 باعتبارها لحظةَ واقع مهول وصادم.. لحظةُ واقعٍ يريد أن يحقق وجودَه الملموس في كل تفاصيل الحياة العراقية، دون ان يترك مجالا لغرائبيات ورمزيات مفرطة، ذلك ان رمزيتَه أوسعُ من ان تحال إلى
الغرائبيات.
وستكمن هنا خطورة الفنتازيا، خطورةُ تحويل الميتافيزيقي إلى قانون فيزيقي/ الروح إلى جسد بحسب ياكوبسن وهو يشير إلى شعرية الحكاية وشعرية الحدث.. ليس من خلال التداعيات التي يسهبُ بها الاتجاه إلى نمط الاداء الفنتازي.
انما بوساطة تحميل الواقعة بشحنةٍ من التهويل.. اذ لا يمكن للفنتازيا أن تكون فاعلة وعلى قدر من الاهمية، ما لم تمارس اقناعا كبيرا في تمثلات الواقع حتى وهي تدير ظهرها اليه في معظم الاحيان!!.
ذلك ان الفنتازيا ليست عبثا بطبيعة الحال.
وليست مواربة لتسلل ثيمات يدوخ بها المرء دون ان يستقر على نتائج السرد.
لقد نجح ضياء جبيلي في خوض غمار المضمر من واقعة الاحتلال، بضعة تفاصيل تختص بأطباء يساهمون في طبابة المرضى، وهم خارج المنظومة المحتلة، قد يكون وجودَهم بسبب الاحتلال وبدعواه، لكنهم موجودون في نهاية المطاف، قَصصُهم السرية جديرة بان تظهر للعيان، أن تسطع في ضمير المناهضين للحرب، باعتبارهم منطقة مشرقة في الواقعة الكالحة والمرعبة وفي اتساع رقعتها
المهولة.
هذه واحدةٌ من مقصديات تلك القصة التي غاصت في المضمر إلى اقصاه، فجعلت منه واقعا ماديا، ينتمي إلى إخبار الحرب اكثر من انتمائه إلى ألغازها.
هذه هي فضيلة هذه القصة.
استبدال حي وذكي لتحويل ثيمة من ثيمات الحرب إلى مشهد ينتمي للضحايا.
ذلك أن اقناعنا بتشابه "كوستكا " الطبيب بـ"فرانز كافكا"، سيكون وحده كافيا لأنسنة هذه المنطقة التي تستتر وراء الرعب الهائل الذي يغلّف الواقعة برمتها – واقعة حرب ما بعد
العام  2003 .
يمكننا ان نتحدث كثيرا عن هذه المجموعة، يمكننا ان ندرس طبيعة الساردين، الذين ما أن يختفي أحدُهم وراء طغيانِ حضور بطل القصة، حتى يطلَّ ساردٌ آخر أكثر عمقا من الاول في لعبة يجيدها ضياء جبيلي في تحويل السارد الظاهر إلى سارد متوارٍ.
إن قصصا من قبيل: "المغازلة/ ماذا نفعل بدون كالفينو/ بيضة الديك/ تهنئة من رئيس الوزراء/ محنة/ حسيبة/ بيكا/ قمر"، جعلت من منطقة الوعي بمتطلبات الكتابة هاجسا لها، وانشغالا فنيا مبهرا، يلمسه القارئ وهو يتطلّع إلى ذاته مكتوبة على الورق، اثرَه الشخصي بتمثيلات الواقع المر والموحش في الحياة العراقية التي تتطلّب من القص أن يجتهد كثيرا في مواجهة القارئ، لا مواجهة نفسه فنيا في التجريب والتغريب.. أقول أن يجد القارئ روحه مطبوعة على الورق، ذلك الورق الذي يرصفه ضياء جبيلي في واحدة من مجاميع القصة العراقية المميزة.