باقر صاحب
ماذا لو استمرّوا في الحياة، ماذا سيضيفون إلى رصيدهم الإبداعي، هل يتجاوزون ما سبق نحو حيازة قصب التجديد، أم سيراوحون قناعة بما أنجزوا، وهل سيطرح مجايلوهم في الأنواع الأدبية التي تفوق فيها الراحلون سؤالا قد يصنف ضمن دائرة الإحباط؛ لماذا لم ننتج مثل ما أنتجوا غزارة في الكمّ وإبداعاً في النوع في الفترة الحياتية ذاتها قبل أن تغلق شواهد القبور عليهم، ليصبحوا ضمن سجل الخالدين؟
أظنّ أنّ هناك احتمالاتٍ بشأن إثارة التساؤلات النوعية أعلاه إزاء الرحيل المبكر لمن هم في دائرة الإبداع، وشواهد الرحيل كثيرة، محلياً بدر شاكر السياب، وعالمياً رامبو، الذي رغم حياته القصيرة، وما أنتجه من تجديدٍ عالمي في الشعر، ترك الشعر للتجارة، إذاً هناك جناية ترك الشعر، ومن ثمّ هناك قدرُ رحيله بعد صراع معٍ المرض.
كُتب الكثير عن السياب ورامبو، ولذا سنسلط الضوء على شاعرٍ حديثٍ
رحل مبكراَ ولم يتجاوز عمره 50 عاماً( 1953- 2003 ) إنه الشاعر السبعيني رعد عبد القادر، لا يعني ذلك أنّهُ أصبح طيّ النسيان، بل هو ضوءٌ أزرقُ كي يفطنَ القرّاء الكرام والشعراء الجدد، إلى المكانة الشعرية المتميزة لرعد عبد القادر، بوصفه السبعيني المجدد، بل المتجاوز لقصيدة النثر في العراق خلال سني حياته القصيرة.
مفارقات
هناك مفارقةٌ يذكرها الكاتب والقاص المغترب سعد هادي عن الراحل بأنه « ظلّ شُبه مجهولٍ عربياً حتى لحظة وفاته» ويذكر هادي أيضاَ، بما نعتقده أنّه مفارقةٌ أخرى، أنه لم يصدرْ سوى أربعة كتبٍ في حياته هي: مرايا الأسئلة، جوائز السنة الكبيسة، دع البلبل يتعجب، أوبرا الأمير الضائعة.
ولكنّ غزارته في الكمّ، توضّحت بعد رحيله بتوالي صدور مجموعاته تباعاً، حيث أصدرت دار المدى مجموعتين شعريتين في كتابٍ واحدٍ هما : صقرٌ فوق رأسه شمس، وعصر التسلية. واقدمت دار الشؤون الثقافية العامة، على طبع جميع أعماله في مجلدين عام 2013، لمناسبة اختيار بغداد عاصمة للثقافة العربية. ولكنّ المفارقة الكبيرة والمؤلمة، تلك التي يذكرها هادي عن الراحل في مقالةٍ له عنوانها» رعد عبد القادر: استشرف الكارثة ومضى... في لحظة ظلامٍ طويلة» ويقصد بالكارثة هنا أحداث نيسان في العراق 2003، بعد رحيل عبد القادر بثلاثة أشهرٍ تقريباً، أي أنّهُ استشرف ما حدث، لكنّه رحل قبل أن يرى بعين الشاعر والإنسان، تفاصيل ما يُثارُ بشأنه الجدل حتى الآن، إن كان ما حدث يُعدُّ تحريراً أم غزواً أم تغييراً جذرياً. يستشهد هادي بمقتبسٍ شعريٍ للراحل، يعتقد بأنّ بؤرة الاستشراف تلك» في هذا المساء خرج الرجال إلى الشارع ببنادقهم الآلية/ هربوا باتجاه العدوّ المحتمل/ العدو اللابد خلف الأشجار/ الصّف الطويل من الأشجار تلقّى أولى الطّلقات/ وعلى الطاولة كانت الأيدي تتحركُ بحرية».
عطفاً على ذلك، فإنّ المسارات الدلالية والحياتية للراحل، تبيّن معارضته الشعرية المبطّنة، لما جرى في حقبة النظام السابق، من الأدلّة على ذلك المجموعات الشعرية الخبيئة في أدراج الشاعر، وما كانت مهادنته بعض الشيء لمؤسسات ذلك النظام، وعمله في مجلة الأقلام آنذاك إلاّ لأجل توفير لقمة العيش، والدليل على ذلك أنّه تركَ المجلة، وانغمر في عملٍ حرٍّ، لم ينجحْ فيه، فعاد مرةً ثانيةً للعمل في المجلة. .
الإجابة عن التساؤلات
ولأجل الإجابة عن تساؤلاتنا، في بداية المقالة، ماذا سيضيف الراحل إلى حركة الشعر المعاصر في العراق عامةً وتجربته الشعرية خاصةً، لو بقيَ على قيد الحياة، يجب التركيز هنا على الانطباع النقدي السائد بأنّ عبد القادر كان مجدداً لقصيدة النثر في العراق، وقطع شوطاً مهماً في تجديدها، بل هو تجاوزها إلى ما أسماه الرواية الشعرية، ذلك ما قاله في حوارٍ أجراه الكاتب نصير النهر:
ـ»أوبرا الأميرة الضائعة، هي كتابٌ شعريٌّ، يتقدّمُ كثيراً على قصيدة النثر التي شاعت كتابتها في العراق بعد منتصف الثمانينيات، وهي كتابةٌ جديدةٌ، أخذت شكل الرواية الشعرية، من حيث توزيعها إلى فصول، أو شكل الأوبرا من حيث توزيعها إلى مشاهد، للكلمة فيها علاقةٌ ـ من حيث التحسس ـ بفن الموسيقى. ولهذا قسّمت الكتاب إلى ثلاثة أقسام، وثلاث حركات» إلى أن يقولَ في الحوار نفسه بأنّ آخرين، لعله يقصد شعراءَ ونقاداً» وصفوا تجربتي في كتابة «الأوبرا» بأنها تجربةٌ رياديةٌ في كتابة قصيدة النثر الطويلة، أو في كتابة النص المفتوح» .
ولعلّنا نرى أن اشتغالات عبد القادر المتفرّدة في «جوائز السنة الكبيسة»، و»أوبرا الأميرة الضائعة»، توحي لنا أنَّ لديه دافعيةً كبيرةً في داخله للتجديد والمغايرة، وأنّ لو طالَ به العمر كثيراً، لأنجز مشاريع جديدة، مجايله الشاعر زاهر الجيزاني أقرّ بالخطِّ التصاعدي لمشروع عبد القادر ،حين قال
« بدأ رعد جاداً منذ قصيدته، جوائز السنة الكبيسة، واستمرَّ في خطٍّ يتصاعد».
بين الأحياء والراحلين
مسكُ الختام في الحيّز المتاح لنا في الصفحة، عن الوقفات الداخلية وليست المعلنة للشعراء من سابقين ومجايلين ولاحقين إزاء منجز نظيرهم الراحل، أيّ راحل، وليس عبد القادر تحديداً، بعد الكشف النقدي التفصيلي عن منجزه.
قد يقول أحدهم افتراضاً: لقد حقّق وهو راحلٌ ما لم أحققْهُ وأنا ما زلت حيّاً، وهو قولٌ تمتزج فيه نزعتا الحسد والإحباط، وقد يشعر آخرٌ افتراضاً، بالحرج أمام نفسه إزاء تواضعِ ما قدّمه، وقد يقول آخر بعدم اكتراث؛ إن الحياة أمامه وسيحقق التجاوز الإبداعي المنشود، وسنستمرّ في افتراضاتنا وهي غيرُ بعيدةٍ عن الواقع، حين يقول أحدهم: الحياةُ جميلة، ما جدوى كتابة الشعر أصلاً؟!.
ولكن في الأخير، نقول كلمتنا: رحيلُ شاعرٍ أو أيِّ مبدع، هو جرسُ إنذارٍ لنا، نحن المبدعين، كي نجتهدَ لكتابةِ ونشرِ ما نعتقد بأنّه جديدٌ ومتجاوزٌ لراهن الإبداع، قبل أن تحينَ ساعة الرّحيل.