طالب عبد العزيز
في مادة سابقة كنت قد تحدثت عن غربة العربيِّ بلغته وثقافته في مدينة الأحواز، وما يعانيه الانسان العربي والمثقف بخاصة هناك، في بلاده وأرضه وبين قومه، وهذه قضية صرت أعيش تفاصيها العميقة والموجعة في كل زيارة الى هناك، حتى أنني تذكرت معاناتي في اللغة التي لم أتحملها ثلاثة أشهر، مع أكثر من عشرين جندياً، من تركمان مدينة كركوك، حدث أن سكنا مجتمعين، بفندق في الباب المعظم، ببغداد، كانوا قد سيقوا مثلي، في العام 1982 كجنود احتياط، في حرب ثمانينات القتال مع ايران. في السيارة التي تقلنا من الفندق الى معسكر التدريب في حامية المسيّب ببابل، صباح ومساء كل يوم كنت الصامت الوحيد بينهم.
وعلى الرغم من همومنا المشتركة، وموقفنا الانساني الصريح من الحرب، وغربتنا في وجودنا وأهلنا، إلا أنَّ أحداً منهم لم يكلمني، فأنا لا أتكلم التركمانية، وإنْ حدث أنْ استشعرَ أحدُهم غربتي بلغتي العربية، وكلّمني بكلمتين أو ثلاث استعجله أحدُهم، وأخذه اليه، مبتسماً أو برماً، واشترك مع آخرين في حديث ظلّ يتسع بينهم ويضيق عندي. كان حديثُهم مستغلقاً وعميقاً، وربما وصلني من أحدهم شيءٌ من سخرية أو تطفل، ولعلَّ الظنَّ ذهبَ ببعضهم الى الشكِّ في وجودي بينهم، كمخبر سريٍّ مغروس من السلطة الأمنية آنذاك. لم أجد في اجتماعهم على لغتهم منفذاً لي، فأنا محْرجٌ من وجودي ذاك، لذا كانت الطريق التي تقطعها السيارة بساعتين أحياناً هي الأطول في حياتي، أمّا باحة الفندق وصالة المطعم والمقهى القريب فقد كانت أكثر الأمكنة غربة ووحشةً، وحين تسلمتُ كتاب النقل الى معسكر الحرب بالجبهة الجنوبيَّة صرتُ أتنفّس هواءً آخرَ،هواءً خفيفاً وبارداً.. وكما لو أنَّ حجراً ثقيلأً قد انزاح عن صدري.
لا يشكَّ أحدٌ بضيق جغرافيا اللغة الكوردية، فقد ظلت أسيرةَ الجبال دهوراً، محصورة بين لغتين كبيرتين (العربية والفارسية) ولم تستعمل إلا في حدودها المعلومة آنذاك، وأنَّ الشعب الكوردي عاني ما عانى في لغته وثقافته، وبما يذكرنا بمعاناة العرب بإقليم الاحواز وهيمنة الفارسية المطلقة هناك، ويحيلنا الى هموم قوميات صغيرة أخرى ببلدان كثيرة في العالم، عانت فيها من هدر حقوقها الثقافية واللغوية، نتيجة لوجودها داخل القوميات الكبرى، ومع أنَّ التشريعات الأممية ضمنت الحقوق تلك، فالمادة 27 من العهد الاممي تتحدث عن عدم جواز حرمان الأشخاص من أبناء الأقليات حقهم في التمتع بثقافتهم الخاصة، أو استعمال لغتهم، داخل وجودهم مع أبناء جماعتهم الآخرين، وبالغ المحامي البولندي «رافائيل لمكين» في خطورة عمليات الاستهداف والهدم الممنهج للهوية الثقافية لأيِّ مجموعة صغيرة داخل المجموعة الكبرى فوصفها «بالإبادة الثقافية».
في الأمسية التي أقامها اتحاد الأدباء والكتاب في البصرة للشاعر والمهندس الكوردي طيب جبار، والتي قرأ فيها بعضاً من قصائده، وأعقبها بمحاضرة نقدية مهمة عن علاقة الشعر بالايقاع والموسيقى والفنون الاخرى، وهو بحث طويل أثار نقاشاً عريضاً، أسهم جمهور الحاضرين في تبيانه أكثر، وربما تعقيده، كنت قد وقفت على قضية مماثلة أخرى، فقد كتب طيب جبار محاضرته باللغة الكوردية، لكنه تحدث بالعربية، فهو يقرأ النصَّ الكورديَّ ويترجمه مباشرة الى العربية، التي بدا انه يُحسنها قراءة ونطقاً الى حدٍّ ما، وهذه قضية شائكة من وجهة نظر المترجمين. في الوقت الجميل الذي مرَّ سريعاً، كنت استشعر محنة الصديق جبار، وأعيش معاناته في ايصال المعنى المُراد للمحاضرة، إذْ لم يكن الامر سهلاً عليه، وعلى الحاضرين أيضاً، الذين غُمَّ عليهم الكثير من بيان ما كتبه ولم يصل إلا مترجماً من لغة الى اخرى، ما أجملنا لو كنا نعرف الكوردية، وما أجمله لو أنه كتب بحثه بالعربيّة.
طيب جبار الشاعر الكوردي، المولود في مدينة كركوك سنة 1953 كان قد أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة والاعدادية بمدارسها (العربية) وتخرَّج في كلية الهندسة بجامعة السليمانية سنة 1976 لا يستعمل العربية بحديثه في المدينة الجبلية إلا قليلاً، مع أنَّ مكتبته عامرةٌ بالنفائس العربية، وقد استشعرت أثر السنوات الثلاثين التي مرّت عليه وعلى جيله أيضاً خارج تداوله للعربية، وأقسى من ذلك أنَّ أجيالاً جديدةً من الادباء والمثقفين الكورد انقطعت صلتهم بالعربية تماماً، أو تكاد تنقطع، بسبب السياسة القومية المتبعة هناك، وبسبب السياسة غير المدركة في عراقنا العربي، وهذا أهمل لديهم، ولم يُراع بموجب خطورته، كما ينبغي، ومثلما يتحمل الساسة الكورد تبعات ذلك تتحمل الحكومة الفدرالية تبعات أهمال تعليم اللغة الكوردية في المدارس العربيّة، إذْ أنَّ القطيعة اللغوية ضارة بالثقافتين، العربية
والكوردية.
ولعلنا نجد استثناءً جميلاً في هذه، فقد كان الكاتب والناقد الشاب الكوردي كيلان محمد، المتخرج في كلية اللغات، والذي يتقن العربية بأجمل ما تكون رفيق الشاعر طيب جبار في سفرة البصرة مثالاً مختلفاً في الثقافة الكوردية، وعلامة فارقة، في الفهم الجديد للثقافة العراقية، فهو قارئ نهمٌ ونوعي، وذاكرة متقدة، ولا أسميه مستعرباً، ذلك لأنني كلما صادفته في مكان ما أو قرات له ازددتُ إيماناً بأنَّ رأب الصدع بين الثقافتين والذي استعصى على الارادة السياسية في اربيل وبغداد ممكنٌ جداً، وأنَّ التقريب بين اللغتين يسير، أقول هذا لأنني، قرأتُ الشاعرَ الكوردي بيره مرد (1867 – 1950) وعبد الله كوران (1904- 1962) وغيرهما مترجمين إلى العربية في سنوات معرفتي الأولى، في صحف ومجلات كانت تصدرُ بالعربية، يوم كانت الثقافة عراقيةً خالصةً، تعنى بالهمِّ الانساني والجمالي، خارج نكد القومية، وغير ضائعة بين لغتين. هل أضيف جديداً إذا قلتُ بأنَّ معرفتي بعبد الله طاهر برزنجي تسبقني الى المعاني النبيلة الكامنة
وراء ذلك؟