لمعان المدن الغائبة عن بغداد

ثقافة 2023/06/12
...

  ياسين طه حافظ

حين نكتب عما لا نحبذه مما نقرأ أو لا نحب، فوراء ذلك تطلعنا إلى ما ينفعنا أو يسرنا من كتابات. فليست هي الأوراق وما سطر عليها، إنما المعنيّ بالرفض أو الارتياح هو موضوع الكتابة.المؤسف أن مهارات تعبير وإنشاء، ان لطف اسلوب وقدرات ابتداع كلام حلو، تشغل اصحابها موضوعات لا تستحق جهد التعبير عنها. صحيح أن كل موضوع مهم اذا امتلك مضموناً نافعاً ومحتوى لكن يكون مهماً اكثر اذا أتينا بجديد او منحناه رمزية يرتقي بها كلما وسعت.

أما أن نكتب جميلاً عن مسألة هزيلة الاهمية والمغزى، فهو هذا ما نأسف له وهو هذا الذي نريد أن نبعد عنه إلى ما هو افضل وأغنى.
هذا المنعطف أو هذا الاشكال سببه ان الكاتب في أفق لا نرى موضوعاته مهمة، وهو قد ألِفها وهي أول ما تبادرَ له إذ أراد الكتابة.
 كثرةُ كتاباته فيها أو فيما يقاربها منحته سهولةً ويسّرت الاقتناع بها والاكتفاء بما تهب.
فهو يعود لها إذا أراد وهي حاضرة جاهزة. بمثل هذه الحال لا تشغل فكرنا مسألة اكبر ولا همّ سوى ما خطر لنا، فكفى.
وهو هذا ما أشاع عن بعض الكتاب، وربما انا منهم، انهم قليلو الرضا وقناعاتهم بما يصلهم قليلة. هم يرونها مكررة معادة، او يرونها قاصرة عما يتوقعونه فيتمنون سواها.
امتلاك قضية، إشكال، مسألة، همّ فكري أو اجتماعي، اساس لأي كتابة جادة ومن دون ذلك فالكتابة انشاء سهل وعواطف، صحيحةً أو مدّعاة. ولن تنفع هكذا كتابة كل المهارات ما دامت الرحى لا تملك قطباً تدور عليه أو تملك قطباً ولا تملك حباً تطحنه.
الموضوعات الحاضرة دائما والتي نكررها، لفةً لها، استسهالاً، فقراً او محاكاة، هذه هي آفة الادب الذي عادةً لا يُقرأ. الكاتب هنا لا يمتلك موضوعه الشخصي، همه الثقافي أو الفكري الخاص، ولا الثقافة التي تميزه. لكن كل حكم يتغير اذا انتبهنا لجديد يقوله، لخاصّ يشير اليه، لمعنى خفي وراء قوله أو انتباهته.
وبالنسبة لبلدان الفقر مثل بلادنا إذ ما نزال نتعلم المشي المتقن في الزمن المزدحم، نكتفي ويفرحنا اي خروج عن الطوق. اي انتباه لتقنية فيها حِدّة وأي شكل فني يبعدنا عما ألفناه ومللنا منه.
تصلني اصدارات جديدة لمّاعة حلوة الاغلفة. اتلقاها بفرح واروح اقلبها بحثا عن جديد، او قديم اخذته بصيرةٌ ذكية، لا تخلو من لطف ولكن من بين الكثير، القليل الذي أريد وقد يريد المتبقي غيري.
يبقى المختلف الجديد موضوعاً او كتابةً، مزاجاً أو جواً، أو تمرداً هو ذلك المفرح الذي نبحث عنه.
حق للجميع ان يملَّ من التكرار والتشابه فالكتابة في تكرارها تفقد الكثير من قيمتها ومعناها. أما أن تتابع سواك وتحاكيهم أو تقلدهم، فقد اسأتَ لنفسك وهي هذه هي التعاسة الأدبية.
ليس هذا، ابداً، موقفاً شخصياً من هذا أو ذاك. هو موقف من ظاهرة وهي رغبة في أن نقول مفيداً. بعض الاصدارات للاسف لا تملك سبباً لمحبتنا. لا نكرهها ونتمنى أن يرقى صاحبها إلى ما هو جديد، إلى ما يخصه، إلى ما تأخذه اليه ثقافته وفكره، إلى ما يسرّ!
اليوم، ومن مجموعة كتب تفضّلَ بها عليَّ اتحادنا، اتحاد الادباء، افردت بمحبة كتابين، احدهما كتاب «بغداد تحت شجرة الدردار»  لـ عبد الجبار ياسين.
وأكاشفكم ما أثارني هو بغداد، لا شجرة الدردار. اسم الكاتب ليس غريباً ولكني لا اعرف صاحبه وما كان لي به لقاء يوماً، أو كان ولا ادري.
المهم ان الكتاب كسر الطوق وابتعد عن الموضوعات المعادة المكررة والتعابير المألوفة. الفعل الأدبي هنا طازج.
والكاتب فكّرَ وعرض مقتنياته الجميلة بطريقة لا أقول جديدة ولكن فيها طرافة ذكية ومذاقاً خاصاً وهو مدرك جيداً لما فعل. يقول: «هي جغرافية عاطفية»، بدأ جميلاً !
بدأ وظل يطوف في بغداد التي عرفها طفلاً وعرفناها، وعاد بعد النضج والاغتراب ليراها «بيتاً بيتاً..»، كما يقول.
جمال هذه الكتابة في ذكر التفاصيل، في محاورة المختلفات، تلك التي يشب في ذكرها الحنين، الحب ساخناً ولمسة الوطن المفتقَدَة من زمان.
هو يسميها باسمائها.. ساحة المتحف، الصالحية، شركة نقل يعرفها ويعرفها جيله، صيدلية الحكيم كنا نمر بها، ليضع امامنا ما اختفى، وحتى نقف حيثما توقف لنرى: «تعبر الجسر حافلة حمراء ذات طابقين ...»
عافية عراقية من بين السطور تلامسنا..
وهكذا تمر خصبةً حلوةً عواطفه على المحلات والساحات، لا كرحالة قديم  ولكن كشاعر متوهج يبحث عن الجمال القديم ليرى ما صار إليه. وعن المعنى ليتعافى به، لترتوي روحه الظمأى مما كان.
وأبدع ما فيه، هي هذه الروح الفرِحَة بما ظل من جمال ومن معانٍ راقدة في مكان، ليعود الى غربته الباذخة الشاسعة حيث الجمال ليس قليلاً هناك في البلاد البعيدة ولكنه جمال آخر غير جمال بغداد وغير محبّاتها وغير خطاباتها ونحن نعبر من مكان فيها الى مكان. هو حيث يرى.
وحيث يتوقف كأنْ يمد يداً لينال سراً جميلا
 ويمضي.
اسأل الآن: ما ضرَّ لو كل مدينة، كل بلدة منسية في بلدنا، حظيت بمن يخاطب روحها ويصف للعالم ما فيها من جمال كانَ وجمال يلتمع في زاوية ولا يُرى. إن لم يهبه حباً، فليوثقه، ليحفظه للارواح المقبلة قبل ان تغيّبه العواصف الترابيَّة في مدن العالم الهالكة.