الناقد العليم للعرض المسرحي

ثقافة 2023/06/13
...

 د. جبار خماط حسن

إن تعدد الاتجاهات النقديَّة، تتطلب من الناقد الإلمام بها، ليتسنى له التواصل المتوازن مع أسلوب وطريقة تقديم العرض المسرحي، إذ ثمة من يقرأ العرض المسرحي بوصفه انعكاسا لحياة المخرج المسرحي وبيئته، وناقد آخر يقرأ العرض بوصفه بنية جمالية مستقلة. في المقابل نجد من يقرأ العرض المسرحي، بمقدار استجابة المتفرج وفاعليتها، وهناك من يهتم بالنقد الدراماتورجي، بوصفه شراكة ابداعية متسلسلة مع المخرج من البروفه (التمرين) إلى العرض المسرحي.

كل هذا تفرزه حياة النقد المسرحي، التي فيها، مقولة التفاعل بين الأنا/ الذات، والآخر/ الجمهور، من خلال شفرات الصوت والجسد، يجتمعان في ذات الممثل لإنتاج سينوغرافيا الأداء، وتحفيز الحواس نحو الامتلاء بكل ما هو مفيد ومبهر، فالعقل والشعور يتغذيان من الكلمة والحركة والإشارة والايماءة، لتكون وحدة المتناقضات في عقل الجمهور، فالمقولة اللفظية لها مفعول التأثير الغالي على تغيير القناعات، وإيجاد ما هو جديد في الوعي والوجدان، تلك هي الغاية ومقاصد العرض المسرحي، تواصله الفعال مع الجمهور، ضمان لاستمراريته بيننا. يقول بريخت “المسرح ليس وسيلة إمتاع للطبقات الأرستقراطية والبرجوازية، وانما هو وسيلة من وسائل تطوير المجتمع من خلال الجماهير وتوظيف هذه الجماهير في طرح أفكاره وتصوراته “إذ ليس من الضروري أن نقدم الأفكار المسرحية والمعالجة الفنيّة، بأسلوب فلسفي معقد، بل الأفضل، أن تكون بأسلوب يسير يحمل عمقا، يتفاعل معه الجمهور، وتقبله شريحة واسعة من المجتمع، لأنّه الهدف الذي يسعى له المسرح والمسرحيون. 

وبأزاء هذا التحقق الجمالي للعرض المسرحي وعلاقته بالجمهور، يبرز دور القارئ العليم الذي يحلل مخرجات العرض المسرحي، بعلمية وسلاسة، تبني ولا تهدم، تقرب ولا تبعد، ينبغي حضوره الفاعل في تناول العروض المسرحية نقدا يراد منه، تطوير العملية الفنية المسرحية.

تعد المعرفة النظرية في النقد نسقا متداخلا ما بين المستوى النظري  المستوى التطبيقي يسهمان في تحليل الناقد للعروض المسرحية التي تنمو وتتطور مع تطور مخرجات الحالة المسرحيّة المحليّة والعربيّة العالميّة، تنظيرا وتطبيقا، في الوقت ذاته، تعاني بعض العروض المسرحية، من غياب القدرة على تنظيم العمل للمنظومة الداخلية للعرض المسرحي بسبب تعذر الوصول إلى معالجة سليمة، تحقق تواصلا فعالا مع الجمهور، إذ نجد عشوائية الرؤية والمعالجة أكثر من كونها فعلا انتاجيا منظما، فما نجده الآن، خبرات إبداعية متناثرة، وليست هوية أسلوبيّة محليّة أو عربيّة يشار لها ببنان التميّز والفرادة، فالمسرح العربي في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن الماضي كان أكثر بحثا ونصوصا وعروضا حققت تفاعلا مميزا مع المشهد البحثي الاكاديمي والصحفي على حد سواء. أسماء كثيرة كانت تتجول في الوعي المسرحي العربي لدى الشباب المسرحية والرواد على حد سواء، يجمعهما حوار الإبداع النابض بالفعل الجمالي ما بين العرض والجمهور. إذ كلما زاد منسوب العطاء الإبداعي للعروض المسرحية، تحقق ناتج التذوق الفني وازداد اثره الايجابي لدى الجمهور، ما يفعله النقد المسرحي للناقد العليم، إنّه يعمل بانضباط مرسلته التكوينيّة الجامعة للعرض المسرحي ومكوناته التنظيمية والجمالية، في المقابل يكون بمثابة بوصلة تشير إلى نجاح تلك المعادلة الفنية الاتصالية أو اخفاقها. إذ لا استعراض لمصطلحات مقعرة، ولا تسطيح للعملية النقديّة الأمر الذي دفع كل من هبَّ ودبَّ ليعلن عن حضوره ناقدا!. 

إن ما يجعل الحوار الايجابي، عصياً أو وعراً، ما بين النقد والعمل الفني، هو الانسداد الفكري الذي يعطل التواصل الفعّال ما بين القراءة النقديّة والعرض المسرحي، بسبب عدم الوصول إلى الثقة بتصورات الناقد ومخرجاته النقديّة - لأنه - الناقد - لديه مقولات جاهزة وانفعالات مضادة، لا تمت بصلة للعرض المسرحي!.

‏وثمة ظاهرة تشكو منها الحياة المسرحية الراهنة، هو انتشار ما اسميه (الناقد المؤخرج) حالة غريبة تعيشها، إذ نجد الناقد، يتحول إلى مخرج ثانٍ للعرض، يقترح ويضيف ويحذف، والمخرج الأول تحيط به الدهشة والانزعاج. شعور بالامتعاض والتقصير من مهمة الناقد، الذي من صفاته الأولى الموضوعيّة، وعدم مغادرة البنى التكوينيّة للعرض المسرحي، من دون افتراضات جاهزة يؤمن بها الناقد، أو اسقاطات من مشاهدات لعروض سابقة محاورة، لا تمت بصلة للعرض المسرحي المراد تقويمه نقديا، نقد جاهز لا يمت بصلة للعرض الذي تم تقديمه على خشبة المسرح، أو الفضاء المفتوح.

هل نسمح للناقد العمل بمنطق الوصاية المسرحية على الآخرين؟ هل نرضى من الناقد أن يكون فكرا فوقيا متعاليا، على الجميع الاصغاء إليه والايمان به؟! قطعا لا، فإصدار الحكم النقدي لا يأتي إلا من أربع لحظات حددها الفيلسوف (كانت) أجدها خارطة طريق سليمة، لمن سار في درب النقد المسرحي. تلك اللحظات: كم وكيف واتجاه واضافة، فالحياة كم من الخبرات، ما على الوعي الفني لدى الفنان، اختيار ما يتوافق مع فرضية المبدع. هل نجح في النظر والتعرّف على تيار الحياة؟ هل تمكن من أخذ ما يفيده ليكون مادة للعرض المسرحي، تتحرك على وفق عناصر ثلاث، بصرية وسمعية وحركية، ذلك هو الكيف الذي نتناوله تحليليا، لنعرف هل حقق اضافة أسلوبية في تراكم الحياة المسرحية المحلية والعربية؟، ذلك هو الاتجاه، وفي الأخير حين يتوفر الكم الثري والكيف النوعي والاتجاه الأسلوبي الفريد، قطعا يترك اضافة جمالية وفكرية في ادراك ووعي الجمهور؟. 

يقول دوفرين، وهو فيلسوف فرنسي معاصر يختص بجماليات الفنون، إن الادراك المؤدي إلى الفعل النقدي الناجح يمر بثلاثة مراحل:

1 -القيمة الحسيَّة: وهو الشعور باللذة مما حققه العمل الفني بالحواس من شعور بالرضا والارتياح.

2 - القيمة الشكلية: وهي المتعة التي تنتج من تفاعل الجمهور مع العمل الفني، من خلال الرموز والأشكال والأفعال التي يستقبلها الجمهور ويتفاعل معها.

3 - القيمة الارتباطية: وهو قدرة التعبير على اختزال وتكثيف ما يكون في الواقع، إلى كم من المعلومات تتعلق بالعمل الفني، يتمكن الجمهور من استيعابها.من بين هذه النقاط التي تمثل خارطة طريق ناجحة للناقد ونقده على حد سواء، تبين بوضوح، أن النقد ليس انطباعات جاهزة تصلح لجميع العروض، ما على الناقد فقط تغيير اسم المخرج وعنوان المسرحية. النقد حراك فكري جمالي خلّاق، يحقق اضافة معرفية، تعمل على تطور وتطوير الحياة

المسرحيّة.