تودوروف بين الأنثربولوجيا والفلسفة

ثقافة 2023/06/14
...

عبد الغفار العطوي

تزفيتان تودوروف  (1939-20177) فيلسوف فرنسي  من أصل بلغاري  عرف باشتغاله في اللسانيات و الأدب  و الفلسفة  و التاريخ و الأنثربولوجيا ، و درس في جامعة صوفيا ردحاً من الزمان   أصدر (21) كتاباً من ضمنها  (في ذلك الشاعرية 1971) و (فتح أمريكا  1982) و (مواجهة المتطرف : الحياة الأخلاقية  في معسكرات الاعتقال 1991) الخ  و تودوروف من أولئك المفكرين الذين نستطيع   القول عنه إنه يمكن من الصعب  تصنيفه وفق  التصنيف التقليدي للفلاسفة  المعاصرين  في الغرب ، ناهيك  عن أنَّ انتقاله من  حدود ما عرفت بأوروبا الشرقية  الخاضعة لهيمنة الاتحاد  السوفياتي آنذاك  (1989) نحو أوروبا الغربية التي تشمل الدول  الغربية  غير الشيوعية ، أو المعادية لها بصورة أصح، هو الذي يعطي لنا هذه الفكرة ، لسببين  ، أولهما علم الأنثربولوجيا  الذي اختصَّ به، و حقق له شهرة و تاريخاً في الأوساط الأكاديمية في الجامعات  الغربية ، فكان أستاذاً زائراً للعديد من الجامعات الأميركية مثل  جامعة هارفرد و بيل و كولومبيا.. الخ كما تم تكريمه  بعدد من الجوائز ، لكن الأهم من  كل ذلك في قدرته  الفاعلة من استغلال بحوثه في علم  الإنثربولوجيا  في صالح كتاباته ، مما أعطاه فتحاً مهماً ليس في الشهرة الواسعة ، بل بالاعتراف به كمفكر مع  ما يستحق  من الاهتمام ، و ثانيهما إن الاختلاف  المنهجي في النظرة الفلسفية و الفكرية المنحدرة من أصوله الأوروبشرقية  التي تعني من باب خلفي التأثر بالمسحة الماركسية  ذات المنحى الإيديولوجي (و إن نفاها  في كتاباته بل تحامل عليها و نقدها بشدة منهجية خالصة) ظلت تطارده  بخفاء ، رغم معاناته  من كل تلك المضايقات ، و لعل الاتجاه الذي سار عليه تودوروف أبعده  من اعتباره من زمرة فلاسفة الغرب ، لكنه تميز  في وضع شخصيته في مجال  من علم الأنثربولوجيا (العامة) التي كانت تقع في منتصف الطريق  بين العلوم الإنسانية و الفلسفة  من دون أن تتعارض لا مع هذه و لا مع تلك، مشكِّلة بالأحرى  جسراً  يسمح للعلوم الإنسانية و الفلسفة بأن تتلاقيا ، هذا المنحى الذي اختطَّه في حياته الفكرية  جعله يشقُّ طريقه المتميز  في عالم الفكر ، لاسيما حينما اقتصرت انثثربولوجيته  على المجتمعات الخاصة  (المجتمعات الثقافية)التي لم تتطرق لها الدراسات الغربية التي كانت تسبقه أو تأتي معه كدراسات كلود ليفي شتراوس على سبيل المثال ، و لقد اخترت  كتابيه اللذين يؤديان  صورة واضحة في  نهجه الفلسفي ، في إقحام الأنثثربولوجيا  في ميادين  العلوم الأخرى ؛ في الفلسفة و التاريخ  و الأدب و اللسانيات ، و هما (نحن و الآخرون) و (الحياة المشتركة) في الكتاب الأول نجده  يتطرَّق فيه لنقطة مهمة  ، كانت هي الأساس  في بنائه الفلسفي و المنهجي  المتفرِّد به ، حينما  يؤمن بفكر ما ظل يعتبره خلاصاً  له ، من صغره و بدايات نشأته في بلد خاضع لنظام ستاليني  معتقداً أنَّ هذه المعرفة  متوافقة مع ذاته  ،دون أن يعي إنما هو يتعرَّف  على الشر ، ليس لأنَّ الحرب  التي تلت سنوات تعرفه نبهته لذلك ، إنما لأنه  يشعر بأنَّ محيطه العائلي   يتعامل بحذر مع ما يقرأه في الصحف التي يستطيع تناولها في القراءة ،إضافة إلى  الغياب القسري  لبعض أصدقاء عائلته يترك شعوراً مرتسماً على وجوه العائلة ، و في المحادثات الهامسة القليلة التي تثير ريبته ، ما كان يدرك معنى الثنائية التي ستصبح إطار منهجه في المستقبل الدراسي ، أي إن ثمة (نحن) و(آخرين) و رغم الحياة الهادئة التي وفرتها العائلة تحدث بصمت متسائلاً عن الإحساس بغياب الأصدقاء، و إن كتاب (الحياة المشتركة)  يتجنَّب السكوت على رابطة الحياة المشتركة التي كشفها التعرف على النظام السياسي  الذي يعمل على التفريق بين الفئات المجتمعية ، و من الطريف  أن يُسهم كتابه (غزو أمريكا) في ترسيب صورة الاعتقالات التي ازدحمت في مخيلته التي احتفظ بها عن بلده في الماضي، قد قادته نحو الأنثربولوجيا  الفئوية ، أي دراسة المجتمعات الثقافية  التي تتقاسم النحن  و الآخرين  ، في مقدمته للحياة المشتركة  يلخِّص تودوروف  على إن اختلاف علم الإنثربولوجيا  عن بقية العلوم ، كعلم النفس  و علم الاجتماع  و علم السلالات      في إنه ركز على الإنسان ، بينما كانت تلك العلوم قد استقطبت  اهتماماً بالشكل أو الهيئة  التي تذهب نحو النشاطات الإنسانية الخارجية ، فهو يقول إنَّ فكرة الاختلاف  نفسها بين المجتمعات و الأفراد تنطوي على مجموعة من الخواص  تجعل  من المقارنة ، و من البحث عن اختلاف   بحثاً خصباً و ممكناً بكل بساطة ، لذا هو استطاع دراسة المجتمعات   بصيغتها الثنائية  في العلوم كافة ، لنجد تعمُّقه في (نحن و الآخرون) قد انطوت  السمة الأخلاقية ، ف(تودوروف) يصرح  في هذا الكتاب في النهاية  تتعارض  ممارسة الحوار أيضاً بالنسبة لي ، مع  حوار التضليل و الإيحاء  لكونها تخاطب المَلَكات العقلانية  لدى القارئ، ففي  مساعي تودوروف  فيه إثبات  ، و لعل تودوروف أدرك في هذين الكتابين التقاسم  المشترك بين طبيعة الإنسان الفئوية ، في مجمل البناءات  الاجتماعية ، خاصة في مضمار الثنائيات الشمولي – السببي ، كما في التقاليد الاجتماعية ، ففي الحياة الكاملة التي يعتقدها الإنسان يدخل عنصر التغاير لضرب أساس هذا المحتوى ، في ممارسة  بِنية الشخص في قوله الدقيق إنَّ الكائن  الإنساني  ليس فقط  متلقياً  و متغيراً  (في التعاقب)إنه متعدد أيضاً (في الآنية و التساوق) و الفكرة قائمة في الأساس على أنَّ كل التجمعات (و ليس المجتمعات فقط)على اختيار داخلي تعددي  لعزل الثقافة بين النحن و الآخرين ، و تودوروف في مقدمة (نحن و الآخرون) يختصر كل جهده في هذا القول سنفهم  الآن إنه، إذا كان موضوع الكتاب هو العلاقة بين (نحن) مجموعتي  الثقافية الاجتماعية و الآخرين  ليس غريباً عن الوضع الحالي ، سنجده أي الكتاب ، و ليس الكاتب فقط يحمِّل الفهم الفردي للإنسان عبء التعاون من أجل أن يكون هناك صدى للحياة المشتركة.

إحالات
* نحن و الآخرون  تودوروف ترجمة  ربى حمود منشورات المدى  ط2 2016
*  الحياة  المشتركة  تزيفان تودوروف ترجمة د- منذر عياشي دار نينوى  ط1  2017