مع بول أوستر في بلاد الأشياء الأخيرة

ثقافة 2023/06/15
...

 طالب عبد العزيز 

  كما في روايته (رحلات في حجرة الكتابة) التي تمركزت حول البورتريهات والصور الموضوعة في الغرفة التي احتجز فيها السيد بلانك، والتي ظلت بؤرة حاكمة في الرواية، يكتب بول أوستر روايته (في بلاد الأشياء الأخيرة) على هيأة رسالة، تكتبها البطلة (آنا بلوم) الى صديقها، الذي ذهب يبحث عن شقيقها ويليام، الصحفي المختفي. وهناك دفتر أزرق دوّنت فيه آنا تفاصيل حياتها الغريبة، التي عاشتها، في المدينة الخربة، مفزعة الحياة. أحالني الى دفتر أزرق آخر كان موضع حرص السيد فيرجيتو، بطل روايته الأخرى (مستر فيرجيتو) الصور الفوتوغرافية ورزم الأوراق والدفاتر الزرق عناية روائية مؤشرة في كتابة اوستر.

  يكتب: «حين تكتشف أنك كففت عن الامل باحتمال الامل، فانك تسعى عندئذ، لملء الفراغات الشاغرة بالاحلام». أي حياة تلك التي يُعوّضُ الاملُ فيها بالحلم؟ أنحن بحاجة دائمة الى قراءة عمل يصدمنا، ويستفزُّ أعماقنا المسترخية والهامدة، عمل يثير فينا الأسئلة الكبرى، تلك المتعلقة بوجودنا، واعتقادنا بعظمة ما بنينا، وانجزنا، وجنينا، وصولاً الى يقيننا المرعب بالنهايات التي تنتظرنا. أقول ذلك بعد فراغي من قراءة رواية (في بلاد الأشياء الأخيرة) العمل الذي عُدَّ واحدا من أكثر الاعمال الادبية سوداوية. بول أوستر الذي توصف أعماله بالواقعية القذرة- أتوقف عند هذه- يرينا واقع حياتنا كما هو، وبالصورة الحقيقيّة، لا المتخيلة

عنه.

 يستعمل أوستر جملة أفعالنا الانسانية اليومية في مفاصل الرواية، لكنه يقلب استعمالتها، لأنها فقدت قيمتها، ولم تعد ذات معنى في وجودنا، فهذه آنّا تستعمل عربة التبضع الأنيقة في الاسواق والمولات لجمع ونقل القاذورات، ذلك لأنَّ القاذورات ذاتها باتت قوام العيش ومصدراً للحياة، التي لم تعد قائمة بالمعنى الفعلي لها، حين تصبح المنازل الفارهة الجميلة خرائب وأمكنة لتكديس النفايات وإيواء الكلاب والقطط والجرذان سيتحول السكن في الخرائب تلك امتيازاً، وبما يُتنازَعُ من أجله، ويصبح التعلق بالعربة هذه همّاً ومصدر قلق لها، فهي تربط العربة بحبل حول خصرها، خشية سرقتها، وهنا يرينا فصلاً في غفلتنا عن إنسانيتنا وتقاتلنا على ما نملك من (بيوت، ثياب، أحذية، سيارات...) في المدينة التي تحولت الحياة فيها الى جحيم ومات فيها كل

شيء. 

 سيجد الفلاسفة وأصحاب الفكر في أعمال بول أوستر ضالتهم، عند قراءة المجتمع الامريكي، هناك فسحة سخيَّة في نقد الرأسماليَّة. واضح أنه خبر العيش في الشوارع الخلفية للمدن هناك، أو أنه اقترب كثيراً، وبوعي مختلف من حياة المهمّشين في الأحياء الفقيرة، حيث ينهزم الانسان بإنسانيته، وفي أدقِّ تفاصيل حياته، وكما في رواية جان تولي (متجر المنتحرين) حيث تفتح عيادة يباع فيها كل مستلزمات وطرق الانتحار تفتتح جماعةٌ يائسةٌ مستشفياتٍ للموت الرحيم، في رواية أوستر

هذه.  في مقابلة له مع مكتبة مالمو بالسويد يقول: «نحن كدولة لم نتعامل بالقدر الكافي مع ميراث العبودية ولم نعالجه، لو كنت من السود، كنت سأحمل للمجتمع الأمريكي كراهية شديدة، نحن أمام ميراث ضخم وصعب طفا إلى السطح واشتعل...». 

 حين يغدو كلُّ شيء من حوله حطاماً لا يملك الانسان إلا أنْ يحلم، لكنْ أيَّ حلم؟ في الرواية تحشو آنّا حذاءها بقصاصات من الصحف، لأنه ممزق وكبير على قدمها، هي تحرص عليه، لذا لا تسير في وحول المدينة الكثيرة، ومثل هذه تفعل بثيابها التي بليت، وتتجاوز الطعام الى الجوع المنظم، وتجد في الرجل القبيح الذي يأويها لذة النوم معه، ودنو الجسد من الجسد، وحين تتوحّش الرغائب لا تجد في مثليّة فكتوريا عيباً جنسيّاً، وجامع القاذورات مضطر الى تسجيل اسمه وحمل الاوراق الثبوتيّة، هكذا، كما لو أنه مالك سيارة

حديثة. 

في تجوالها اليومي وهي تنقل القاذورات بعربتها تقول آنّا:» كان من الممكن أنْ انجز عملاً أفضلَ، إلا أنه ثمة حظوظ، حدود، رفضت تجاوزها، منها لمس الموتى، على سبيل المثال!» مع يقينها بأنَّ تجريد الموتى من ثيابهم ومقتنياتهم أحد أكثر العوامل ربحاً في الكناسة، أيّ مفاضلة مستحيلة هذه؟، نقل القاذورات أو سلب الموتى

 أشياءهم.

 في المدينة، حيث أمضت آنّا شطراً من حياتها لا نجد مجتمعاً قائماً على أساس التعاون والمعاضدة، كانت الحياة بالمفرد، والكل ينتزع من الكل، والانسان بمواجهة فريدة مع أقداره، على تغيير وتعاقب السلطات الحاكمة، وفوق ذلك كله هناك سيادة طبقيّة للصقور الجشعين، هم الكنّاسون الذين يكسبون عيشهم بالسرقة من الكنّاسين الآخرين، فالجثث تُسلبُ دونما شعور بالتقصير والإثم، وحين مات فريدناند، الذي عاشت آنّا معه، لم تخش على جثته من السلب، إنما خشيتها كانت على عربة القاذورات التي حملته بها، وحين أرادت الهروب من المدينة باتجاه البحر تفاجأت بالحكومة وهي تبني سوراً على البحر لمنع المهاجمين، أي مهاجمين على مدينة لم

تعد!. 

بعد تنقلات أسطوريّة وخرافيّة وحياة لا تمت الى الحياة بصلة تطرق آنّا غرفة بمبنى المكتبة تسكنه جماعة يهودية شبه منقرضة باحثة عن صموئيل فار، الصحفي الذي كانت تظن أنه سيقودها الى شقيقها ويليام، والذي اختفى منذ أن كلفه رئيس التحرير بكتابة تقرير صحفي، فتفاجأ بسام وهو يشهر مسدسه بوجهها، لكنه وبعد طمأنينته منها، يسمح لها بالدخول ويقبل بها، فتسكن معه في غرفة بالطابق التاسع، حيث يعيش، ثم أنهما يقتربان أكثر من بعضهما، وفي الليل حين يجوع الجسد يذهبان أبعد من ذلك: «لقد أحبني سام، المنشغل بكتابة كتابه وأوراقه، فقد بدا ينسل في الصباحات، ليقوم هو بنفسه بالأعمال الروتينيّة مصرا على أن أبقى في السرير وأتابع

نومي».  

   بعد شهور ستكتشف آنّا بأنّها حامل من سام، وحين تسوء اوضاع المكتبة وتقضم آلة العوز ما لديهما من المال، وتضطرها الحاجة الى الخروج لا يسمح لها، لا لأنّها حامل، إنما لأنه يحب قدميها، ويخشى أن يهترئ حذاؤها بالمشي. تقول: «أحسست بأني أميرة حمقاء» ثم انها تخدع ببائع أحذية يريدُ قتلها فترمي بنفسها من النافذة، وتفقد جنينها، لتجد نفسها في مأوى وبرون، الذي تديره فكتوريا، حيث ستمضي الايام الاخيرة، من دون أن تهتدي الى صديقها ويليام. لكنها تكتب له: أنا آنّا بلوم صديقتك القديمة، من عالم آخر، سوف احاول عندما نصل الى المكان الذي نقصده أن أكتب اليك من جديد،

أعدك. 

(في بلاد الأشياء الأخيرة - بول اوستر- ترجمة شارل شهوان- اصدارات دار الآداب- بيروت).