صلاح حسن الموسوي
أسال موضوع الطبقة الوسطى كثيرا من حبر الكتّاب، وفي الغالب اقترنت صورة هذه الطبقة بنظرة وردية تفاؤلية وايجابية، منذ ولادتها الفعلية في اوروبا باسم الطبقة البرجوازية التي تبوأت موقع الوسط بين طبقة الفلاحين الفقراء وطبقة النبلاء والإقطاع الغنية، وقد توسع دور هذه الطبقة لتقلب الأوضاع هناك وفي العالم ككل رأساً على عقب، وتدشن بدء ولادة العالم الجديد عبر الثورة الفرنسية التي رفعت شعار المساواة الحقوقية بين البشر، تلتها الثورة الروسية التي ارادت ان تحقق المساواة الاقتصادية وتقضي على التفاوت بين الطبقات.
أدى توسع وشمولية نمط الإنتاج الرأسمالي ونشوء الدولة القومية او الوطنية، الى تكريس الطبقة الوسطى كمحرك حاسم للتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مختلف البلدان، بسبب كونها كتلة بشرية كبيرة حائزة على مستويات متنوعة من التعليم وذات موقع اجتماعي وسطي، المسألة التي صيرّت من نخبها الرافعة الأساسية لمشاريع النهوض والتغيير وطموح الأفراد للصعود في السلم الاقتصادي والاجتماعي، وحرص آخرين على تفادي النزول للطبقة الفقيرة بسبب الجوائح والكوارث والأزمات الاقتصادية الناجمة عن الكساد والركود الاقتصادي او نتيجة لحصول التغيرات السياسية الحادة.
قد لا يصح اطلاق الوصف في تحديد الطبقة الوسطى، كما هو سائد بالفكر الماركسي وتعريفات الطبقة بذاتها او لذاتها، ولكن ما يشبه التأكيد، انه اذا صلحت الطبقة الوسطى تصلح المجتمعات، واذا خربت تقود المجتمع ككل الى الخراب، فالأهم من تكوينها وموقعها الاقتصادي، جوهرها الأخلاقي الذي تتفوق به كونها نشأت بنشأة المجتمع الحديث. اذ أسهمت في انتشار التعليم وتأسيس مئات المدن، وكان ابناؤها هم حاملي رايات النهضة في مجالات الآداب والفنون والعلوم، وكذلك تصدر ابناؤها تأسيس وقيادة الأحزاب السياسية خصوصا ذوات الأيديولوجيات الشعبية، وفي العراق ارتبطت نشأة الطبقة الوسطى مع انتشار التعليم العام في الدولة العراقية الناشئة، وكان لها الدور الأكبر في رفد المجتمع بالفنانين والأدباء والقادة الحزبيين والنقابيين والعسكريين، وبدأ تصدع نجمها مع الحقبة النفطية، وتحول العراق الى بلد غني ريعي، فمع ارتفاع مستوى هذه الطبقة الاقتصادي وتمتعها برفاهية الاستهلاك، الا ان النظام السياسي الشمولي صادر اصغر المساحات الممكنة لاستقلالية هذه [الطبقة]، واصبحت ملحقة به بشكل كامل، إذ اختزلت الدولة بالسلطة، ومن ثم جاء الحصار الاقتصادي الدولي الشامل، ليخلق من الطبقة الوسطى طبقة شديدة الفقر. فاستنزفها الخيار الوحيد المتاح هو الهجرة والهروب نهائيا الى خارج العراق.
أدى تغوّل العنصر الريعي (النفط) في الاقتصاد العراقي بعد عام 2003، الى تقلّبات عنيفة في المستوى المعيشي للطبقة الوسطى، ونمو كبير للطفيلية الاقتصادية الناتجة عن العلاقة الزبائنية بين فئة المقاولين ورجال الأعمال من جهة، والسياسي الذي تصدر المشهد على اساس الانتماء والولاء لبنى ما قبل الدولة كالطائفة والعشيرة، وفي السابق ادى الحصار الدولي على العراق الى انهيار شامل لمنظومة الطبقة الوسطى العراقية مما اخل بالجوهر الأخلاقي لأوساط عريضة منها، الموضوع الذي هيأ البيئة العراقية لانتشار الفساد كالنار في الهشيم بالتزامن مع ضعف الدولة وتضعضع مؤسساتها، ويمكن عقد مقارنة بين واقع هذه الطبقة بداية تكونها ونموها مع نشأة الدولة العراقية الحديثة، فمع وجود الفقر وشيوع الجهل في البلاد آنذاك، حملت راية البناء والتغيير عبر تأسيس الأحزاب المهمة كالوطني الديمقراطي والشيوعي والاستقلال والدعوة والديمقراطي الكردستاني، فضلا عن بروز شخصيات سياسية وطنية كبيرة كجعفر ابو التمن وكامل الجادرجي ويوسف سلمان وعبد الكريم قاسم ومحمد باقر الصدر وكثيرين غيرهم في مجال السياسة والفكر والأدب والعمل النقابي والأكاديمي، بالمقابل نجد حال الطبقة الوسطى الحالي مع توفر الرفاه المادي عجزت ان تضع بصمتها العميقة في سطح الأحداث التي تمور بها البلاد، ورضت بواقعها كملحق بالسياسي ذي الأفق الوطني الضيق، ولم يشهد لها بالقوة والتأثير في فرض رؤيتها ومرشحيها في الانتخابات الوطنية والمحلية، والأكثر ارتباكا، مواقفها المتذبذبة من احداث البلاد، كردات الفعل ضد العملية الديمقراطية باعتبار صعود الفقراء والريفيين المتحالفين مع قوى الاسلام السياسي، ومن جانب اخر لم توفر شريحة كبيرة من المحسوبين على الطبقة الوسطى انتقادها الى حد العداء للمنتمين الى الانتفاضة التشرينية، واتهامها بتعطيل الأعمال وقطع الأرزاق والتسبب بانفلات الأمن. على الرغم من الدعم المعنوي الكبير الذي أبدته في الأيام الأولى لانطلاق الانتفاضة.
لا شك أن أزمة الطبقة الوسطى هي أزمة عالمية، اشتدت مع حلول العولمة على انقاض دولة (الرفاه) التي استعانت بوصفة العالم الاقتصادي كينز الداعية الى ضرورة تدخل الدولة وعدم اطلاق يد السوق في التحكم بحركة الاقتصاد، وهذا ما انقلب عليه بارونات العولمة عبر الذهاب بالمبدأ الليبرالي بعيدا، وبحسب مارغريت تاتشر (لا يوجد مجتمع! بل يوجد افراد فقط)، والدولة (الحارسة) وليست (المتدخلة) التي يحبذها المبدأ الليبرالي، تعرضت الى الإضعاف الشديد! بسبب انفلات رأس المال مما انعش من حظوظ التوجهات الشعبوية كردة فعل جماهيرية ضد التمييز الواضح لصالح الأثرياء الذين هاجروا برؤوس اموالهم الى الخارج وتهربوا من دفع الضرائب عبر الملاذات البنكية في الجزر النائية، وفي دول العالم الثالث باتت اقتصادات هذه الدول مباحة لأوامر المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، إذ زاد من ضعفها طبيعة النخب السياسية التي تصدت لحكم هذه البلاد، والذين هم عبارة عن خليط طائفي- عشائري - نيوليبرالي، واجهتها أخيرا الجماهير من الفقراء والمهمشين في العراق ومعظم الدول العربية بالثورة وتقديم الشهداء، ولكن هذه الجماهير خذلتها الاستجابة المتواضعة من لدن الطبقة الوسطى وافتقارها الى قوة وفعل انتاج نخبة ثقافية- سياسية قادرة على قيادة هذا الحراك والوصول به الى بر تحقيق اهدافه في العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي الإيجابي.