منْ أهم علامات تعافي الدول وسيرها على السكة الصحيحة انتهاجها علاقات خارجيَّة متوازنة ومعتدلة مع مجالها الحيوي وخاصة دول الجوار، وعدم اتباع سياسة المحاور والتكتلات المبنيَّة على أسسٍ عدوانيَّة ضد أية جهة، وعدم التدخل في شؤون الآخرين أو التداخل السلبي معهم، أو الاحتكاك المفضي الى حدوث مشاكل دبلوماسيَّة ساخنة أو نزاعات قد تؤدي الى نشوب صراع مسلح يفضي الى نتائج كارثيَّة، فالدولة الناجحة هي التي تحتكم الى المواثيق الدولية ولا تتجاوزها في جميع الحالات التي تستدعي ضبط النفس والحنكة السياسيَّة
والتعقل.
بعد التغيير النيساني المزلزل واجهت العملية السياسيَّة عدة تحديات كان أولها التركة الكارثيَّة الثقيلة التي خلّفها النظام السابق في عموم مناحي الحياة وبما يشبه الدمار الشامل لها، فكان على أصحاب القرار أنْ يقوموا بترميم الواقع المتهالك والمتداعي الذي عانى منه الشعب العراقي لأكثر من ثلاثة عقود ونيف عاشها تحت نير الديكتاتورية الفاشستية، وزاد الطين بلة الخطر الثاني الذي تمثل بالسيناريو الإرهابي التدميري الذي أُعدّ من بعض مراكز القوى الإقليميَّة والدوليَّة وعلى أسس سيا/ طائفية مبيتة لتقويض العملية السياسيَّة وإرجاع العراق الى مربع الصفر، وتجلى ذلك السيناريو التخريبي غداة التغيير النيساني بتنظيم القاعدة الإرهابي الذي فرّخ تنظيم داعش الأكثر توحشاً منه ودمويَّة في ما بعد، وهما تنظيمان قروسطيان متوحشان سببت أعمالهما الإرهابيَّة ولعدة سنوات بعشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء، فضلاً عن تدميرٍ مبرمجٍ للبنى التحتية والشواخص المعماريَّة وضياع الكثير من الفرص التنمويَّة، فضلاً عن أنَّ مقارعة الإرهاب والحرب ضد داعش قد استهلكت الكثير من الأموال التي كان العراق بأمسّ الحاجة إليها، لا سيما وقد ترافق ذلك مع الأزمة الاقتصاديَّة الخانقة التي مرَّ بها العراق جراء هبوط أسعار النفط في السوق العالميَّة، فتحتم على أصحاب القرار أنْ يزيلوا آثار تلك التحديات التي تركها النظام السابق والإرهاب الداعشي الغاشم، كون مرحلة ما بعد داعش بقيت بحاجة ماسَّة لتعزيز الأمن الإقليمي الذي يشكّل العراق بؤرة مركزيَّة فيه من أجل علاقات إقليميَّة أكثر نضوجاً، ومحاولة رسم معالم نظام أمني سياسي إقليمي يكون العراق محور هذا النظام
الستراتيجي.
ولكي يسترد العراق عافيته كان عليه أْن يخوضَ عدة معارك وفي مجالات شتى ويكسبها ولكي يعود له موقعه المحوري كدولة مفصليَّة مهمَّة من دول الشرق الأوسط يُحسب لها ألفُ حسابٍ، وبعد أنْ تمكّن العراق من الانتصار على داعش بتضافر جهود أبنائه وتضحياتهم توجّه الى ترميم ما يمكن ترميمه من علاقاته الخارجيَّة مع جميع الدول وهي علاقات لم تكن سابقاً مبنيَّة على أسسٍ من حسن الجوار أو المصالح الوطنيَّة المشتركة أو حماية الأمن القومي للبلد، بل كانت تسيرُ وفقَ مزاج السلطة الحاكمة وحسب أهوائها، ولم تكنْ مبنيَّة على أساسٍ من التوافق والاعتدال، فالعراق لا يزال بحاجة الى الحوار الستراتيجي كعاملٍ أساسيٍ في تطوير آفاق التعاون في مجالات العمل المشترك وتقوية أواصر العمل والتعاون بينه وبين دول المنطقة، لا سيما بعد الشوط الكبير الذي قطعه في تطوير علاقاته الإقليميَّة والدوليَّة مع تضمين المشوار تعاوناً في مجالي تحقيق التنمية المستدامة
والبيئة.
وليس بغريبٍ أنْ يشهد العراق توافد الكثير من زعماء العالم عليه كونه يعيش إرهاصات بناء الدولة الحديثة وبشكل صحيح ويحاول النهوض من كبوته في فشل التأسيس الدولتي الذي رافق التغيير النيساني 2003، سواء على صعيد تنظيم علاقاته الخارجيَّة أو على صعيد الدور الذي يجب أنْ يلعبه في محيطه الحيوي وهو مرشحٌ خلال الفترة المقبلة للعب دور مؤثر في العلاقات الإقليميَّة، وإنه يستطيع أنْ يكون نقطة ارتكاز لتلاقح هذه المصالح على قاعدة حماية الأمن
الإقليمي.
فالعراق بدأ يستعيد موقعه المحوري في المنطقة والعالم، من خلال التحركات الدبلوماسية الأخيرة التي نجم عنها توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصاديَّة والتجاريَّة مع العديد من الدول كمصر وإيران
والسعوديَّة. وهو يختلف الآن عما كان عليه بعد 2003، إذ أبعدته المشاكل الأمنية والاقتصادية والحرب على تنظيم داعش الإرهابي عن ممارسة دوره الفعال إقليمياً وعربياً وعالمياً. واليوم يعود معافى، وباختصار شديد إنَّ العراق الذى أريدَ له أنْ يكون رجلاً لمنطقة المريض بدأ يتعافى ويسترد عافيته التي غابت عنه
طويلا.